منابع الضحك العذب ومصارفه المالحة /أحمد فرحات

منابع الضحك العذب

ومصارفه المالحة

ـــ

بالكثير من الصخب الداخلي، الذي يجلعني منسلخا بشكل أو بآخر ولسبب ما أو لآخر؛ من كل المحيط المادي، ومنهمكا في تحليل نفسي واجتماعي فلسفي مُعمَّق؛ في محاولة للوصول إلى إجابات عن كثير من الأسئلة بخصوص اكتشاف أناي أو بالأحرى معالجتها، ولا تجد النفس عزاءها للمعالجة، الاكتشاف والتمحيص إلا بفهم الغرائز البشرية ومقارنتها بغرائز الحيوان، الحشرات، النبات والجماد، أيضا. ومن أهم تلك الغرائز؛ اشتهاء الضحك/ البكاء، أو لنقل نشوة الكائن لتقديم صورته الفضلى في عيون الآخر أو تأطير بصمة شكله فيما هو يبكي وفيما ينفرط من الضحك.

تلك الأسئلة؛ التي جالت بخاطري منذ البداية (معنى، فهم وتعريف أو تعليب تفسير مجمل عن الضحك وأنواعه ودرجاته ووصفه وما إلى ذلك من إلحاحات لسبر غور موضوع لا يحصر في مقالة. مماهاة أو معارضة رؤى فلاسفة الضحك ک”هنري برغسون وتيري إيجيلتون”، أو تتبع أثر الضحك في فن من الفنون المتعددة التي حرصت على تقديم الكوميديا بكل تعدداتها وبرع فيها عربيا وعالميا الكثيرون) عندما قررت أن أعيد التعبير عن  تفسيرات عقلية للكثير من المبادئ المعرفية حول الضحك/ الإضحاك؛ انمحت وأصبحت تلحّ أسئلة ألِفتها أعمق لفحص ونمذجة وتحليل اتجاهين أحدهما تمثيلي، وآخر تحليلي استقصائي ومنطقي عن جزء من صناعة النفس البشرية؛ لأن الضحك كفعل يرتبط بنشوء اللذة أو استقبال الإشارات الكهربية، المتحولة فقط في الكائن الآدمي، إلى لغة تعبيرية، يمكن بها فهم السلوك لمعالجته أو لتطويره وفق محاولات تفسير هذا الانتقال الإشاري من العقل لأعصاب الوجه وما يتبعها من شبكة.

يتأتى الضحك أو لنقل الالتذاذ بالغريزة، من رغبةٍ عارمةٍ في مواجهة موجة بكاء، بنفس الحدة ومساوية لها في القوة والإشارة العصبية، كمد وجزر بين البكاء والضحك، ولم نجد في الحيوانات (إلا فيما ندر ولأسباب مختلفة كليا) بالمتابعة وتحليل البيانات والنتائج؛ أنّ الحيوانات لا تتأثر بهذه الشهوة، لكن بعض الكائنات بما فيها جوامد الطبيعة [جوامد الطبيعة، بالأساس هي البذرة الأساسية لتكوين وعاء هذه النفس المُستكشِفة والكاشفة والمفلسِفة لحياتها وحياة من حولها؛ لبناء علاقات مجتمعية مبنية على العلم الكلي كفريضة أولى] بمثابة مثال واضح على استخدام القرقعة/ النحيب، وبعض الأصوات الأخرى مع الحيوانات والنباتات توازي صوت وحركة الجسد، الفك، الشفاه والعيون في الإنسان، كما أنها تستلهم الدموع، لكن ليس تعبيرا عن الحزن/ السعادة، بل لتقديم انتقال شعوري (قد يكون الغضب أو الرغبة في الافتراس، التزاوج، أو طلب المعونة من المحيط الطبيعي للحماية مثلا) مؤقت، غالبا، من حال لحال، بناءً على معادلاتٍ حيويةٍ غاية في التعقيد والتراكم.

ويتأتى الضحك من موجات عصبية بشرية ونتيجة تأثر بمؤثر داخلي غالبا أو خارجي، ويختلف نوع الضحك الذي يقدمه صانعه أو مُستقبِله، حسب الفئة العمرية والثقافة وتأثر العقل البشري ببيئته وبنية شخصيته ويعتمد، أيضا، على الدرجة أو التراتب التراكمي للشخص إن كان صانعا أو مستقبلا، للفكاهة/ الضحك/ الهزل/ الفن الكوميدي، بكل صنوفه/ النكتة/ “الميم”/ الكريكاتير/ الكوميديا؛ أو كما يمكن تسميتهم أبناء الضحك، الانفعال الهستيري لانفراط تراكم مجموعة هرمونات السعادة بالسلب أو الإيجاب، هذا بالنسبة لمتلقي الفكاهة كانفعال هستيري مُتأثَّر به.

ولكن ماذا عن صانع الضَحِك! كيف يصنع مسببات ومبررات الضحك المفاجئ للآخرين، وما الذي يدفعه شخصيا للضحك، من تلك المعطيات؟ وهو الذي، غالبا، يكون الأكثر كآبة وانزواءً وانخراطا في الحزن عن غيره من الكائنات؛ إذ يلجأ الكائن المُبرمَج، بشكل أساسي، على الانتشاء بالحزن، لصناعة الضحك في محاولة منه لحماية روحه من التدمير الذاتي الكلي نتيجة ما يعانيه من انفعالات صاخبة لتأثيرات الحزن والاكتئاب والمعاناة. ويتحدد مدى الاستيعاب للهزل والإضحاك حسب مهارة المُضحِك ومرنته على تأدية دوره داخل أي من قوالب الضحك.

صانع الضحك أي كانت وظيفته المؤداة، كالمهرج، البهلوان، المشخصاتي، الكريكاتيوري، ……، الكاتب الساخر، ومع ما يتحدد في مستوى عمق ما يقدمه واتصاله بروح الدعابة وحسّ الهزل والهزؤ، ودرجة اتقان ذلك الاتصال، ومع ما يتأسس على تلك الوظيفة من درجات الانفعال بالضحك، يمكن الفهم كعملية درامتيكية معقدة وهي الإتيان بذلك الانفجار الشعوري المسمى الضحك؛ كاستجابة للإدراك الذي يقر بأن الكينونة الاجتماعية ليست شيئا حقيقيا، أي إدراك الفرد أن الحل المثالي للتواصل مع الآخرين هو اللامبالاة والتجرّد من العواطف والانفعالات لتتحوَّل المشاعر أمام أعيننا إلى هذه الحالة من التعبير عن الفرح بالصوت والإيماءات والتمثيل الجسدي؛ فهو (الصانع الأمثل للضحك) حين يتحضّر للدخول إلى حالة الإضحاك تلك التي يجيد تأديتها، يكون قد تأثّر مسبقا على مستوى ذاكرته التاريخية التراكمية بمسببات عدة أغلبها انفعالات حزينة، وقد يكون تعرض للكثير من الإيذاء والعنف أو مارسهما بدرجات، ليخرج في النهاية بنتيجة؛ تخزين وتدوين مشاهد ومشاعر وانفعالات قد تثير حفيظة المستشعرات العصبية للمشاهد سواء انفعالا بالسعادة أو تلقي السرور بكل معانيه وتأثيراته، أو الانفعال بممارسة الإيذاء -نفسه- تبعا للمتلقي ودرجة ثقافته ودرجته الاجتماعية وفئته العمرية.

بالعودة كمثال أولي على عمل الكوميديان وتفسيرات عمله، لنأخذ شارلي شابلن كمثال واضح على هذا الاشتغال والانشغال الجاد في عملية صناعة الهزل وتعليبه ليظل مقاوما ضد فعل الزمن لقرون، فنجده بكل صرامته وجده وبؤسه الجلي، يقدم مجموعة مركبة من سيميائيات الصورة الفنية المتحركة والصامتة، إذ تتحول كل حركات الشخصية، تقريبا، والتي يتلبسها على الدوام؛ إلى هزل؛ فنجده أولاً، يقدّم شخصية واضحة المعالم من لحظتها الأولى على شريط العرض السينيمائي، شخصية نحيفة تتحرك داخل ملابس مهرج أو لنقل ملابس أحد أفراد طبقة العمال الدنيا، بقدمين تتحركان في اتجاهين متضادين على الدوام فتبدو الحركة الغير منضبطة مثار سخرية فيما هو يؤكد عليها بتعثراته المتتالية، شابلن الذي ينتزع من المتلقي كل انفعالاته بهزل الحركة والملابس والتصرفات، المتلقي أياً كانت فئته العمرية أو الطبقية، ينتزع كل مراحل الانفعال العصبي المرتبط بهرمونات السعادة، بداية من التماع الابتسام حتى انفراط القلب والوجه بقدر الضحك الذي يخرج منسابا على مدار المروية الفنية السيميائية التي يقدمها على شريط السينما من أجل إضحاك الجماهير، ويبدو ارتباط الخطاب الساخر بتناول الموضوعات ذات الأهمية للطبقة التي يتعامل معها الكوميديان، فنجد ذلك في تطور أساليب الكوميديا في مقابلة رضى وتقبّل الجمهور.

وكمثال آخر شديد الوضوح على اختلاف تلقّي الكوميديا داخل الفئة العمرية وداخل الطبقة، وبتطبيق عمل الإحصاء الميداني كأداة داخل الفلسفة، وجدت من خلال تحليل مجموعة بيانات المتعاطين مع الاستطلاع (شريحة من خمسين فرد بين الطفولة والبلوغ والشيخوخة)، أن اختلاف تلقي الفئة العمرية لأفلام كارتون “توم & چيري” تعطي نتائج مختلفة الحدة، فينفرط الشخص ضحكا في سن صغيرة نتيجة تأثره بالمطاردات المستمرة بين القط والفأر وقد يتاثر -نتيجة نفس المؤثر- في سن النضج لكن بحدة أقل، لكنه يعود في سن الشيخوخة لشغف الأطفال -نفسه- بالمطارادات المتنوعة داخل شريط الفيلم السينيمائي. وينطبق التأثر السابق على فئة الأطفال في كل الطبقات لكنه يختلف كليا في فئات البالغين والشيوخ، وهذا قد يعطي مؤشرا هاما في عملية تحليل مسار الكوميديا داخل الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة؛ مؤشر يدلل على تدخل عمليتي الوعي والأثر المادي للطبقة/ الشريحة في تلقي الكوميديا، أو ما نوصفه بأنه ذاك الانفعال العصبي المتأثر بتزايد هرمونات السعادة في دم المتلقي لحظة انخراطه في الاندهاش بأطروحة الكوميديان أو صانع الضحك، الكائن الهزلي صاحب وجهة النظر الهزوؤة من العالم والموجودات.

[يقول كونديرا في روايته كتاب الضحك والنسيان: يدوّي الضحك في الأعلى فيما يشبه قبة معبد الشهوة، “إنه جَذبةُ السعادة اللذيذة، وذروة اللذة القصوى، الضحك من اللذة، ولذة الضحك”. ومما لا شك فيه أن هذا الضحك “أسمى من المزاح والسخرية والسخافة.”؛ فالأختان الممددتان على السرير لم تكونا تضحكان من أي شيء محدد؛ فضحكهما لا موضوع له. إنه تعبير الكائن عن فرحة وجوده. ومثلما يعبّر المتألم عن ألمه بالأنين (ويكون مفصولا تماما عن الماضي والمستقبل)، فإن المنفجر بهذا الضحك الانتشائي يتجرد من كل ذكرى ومن كل رغبة، ويكون ضحِكُه راسخا في تلك اللحظة، متركزا حولها.] فكونديرا هنا كروائي وفيلسوف، يقدّم طروحته عن لذة الضحك في فقرة على لسان القناع/ الراوي العليم ويستغرق في تعريف الضحك وتشخيصه والتفريق بينه كنشوة، وبين أصناف التعبير عن الانفراط من الضحك، ويشير إلى كونه تأثرا لاواعيا كاستحقاق الكائن (للفرح بوجوده)، وقد أتفق معه في غالب أطروحته لكني أختلف مع فكرة تجرّد المنفجر بهذا الضحك من كل ذكرى ومن كل رغبة، فقد أشارت استطلاعات الرأي واتفقت حول كون الفرد والجماعة تضحك نتيجة تأثر ما لكنه يرتبط بكل التاريخ الشخصي للمشاهدات والوعي والطبقة الاجتماعية، فيما يعني الذاكرة الفردية والجمعية، وقد أجابت أطروحة اللذة القصوى الذي طرحه كونديرا نفسه عن الضحك فيما يخص الرغبة في لحظة الانفجار العصبي بالتعبير عن السعادة في شكل أصوات وانفعالات وحركات. وكونديرا مثله كجميع من انخرطوا بحثا في فلسفة الضحك قد ذهب بعيدا ببحثه وفي مرحلة كتابه الرابع هذا، نحو تعريف الضحك الانتشائي تحديدا، ففعل النشوة (الضحك) نتيجة مؤثر بالطبع لكنه يختلف كون المؤثر داخلي أو خارجي، فالمؤثرات الداخلية؛ النابعة من ذاكرة وعمق النفس البشرية المعقدة للكائن، والمارة عبر تاريخه ومستقبله؛ في اللحظة الراسخة للضحك تنتج انتشاءً يطول مداه عن ذلك الانتشاء نتيجة المؤثر الخارجي كالعقاقير والمهلوسات والمثبطات، وقد تناولها كونديرا لاحقا في روايته (البطء).

إن انتشاء الكائن، أي كائن، أي فرحه بوجوده كما عبّر ميلان كونديرا، يختلف عن الهزل/ السخافة، السخرية، والمزاح، ففي مشاهدات متتالية ومعمقة على وسائل التواصل لواحدة من مقدمي السخرية، كتابةً كمدونات مشهدية وتمثيلا على منصة “تيك توك” نجد اعتمادها أولا وأخيرا على تنويعات مختلفة للحن الهزؤ من العادات والتقاليد وطرح نقد لاذع لتصرفات المحيط الاجتماعي للطبقات التي انتمت لها على مدار تاريخها الشخصي كصانع محتوى يؤثر إيجابا على مؤشر اندفاع هرمونات السعادة داخل سوائل المتلقي، فينفجر برغبته الكلية في الضحك باختلاف موضوعها أو طريقة معالجته، فالضحك هنا، تحديدا، يصبح كموضوع فلسفي بحت وجب مناقشته نتيجة تأثر الصانع نفسه بمجموعة من العوامل على مر تاريخه التي أهلته نهاية ليكون في موقعه كساخر بهذا القدر التراكمي الكبير لتدوينات ذاكرته المشهدية ونقوضه الدائمة.

وفي مثال أخير نجد السخافة (ابنة النكتة) أو الهزؤ ومشاهد الأذى ضد الأضعف، تثير موجة من الضحك الحانق (سواء حنق الرفض أو التقبُّل)، وهذه الموجة لا تمتد لأكثر من الابتسام أو الضحك المنخفض الحدة، كتعبير إنساني بحت عن غريزة العقاب الذاتي، وهو ما يفسر تقبُّل هذا النوع من الضحك تحديدا، فالكثير من مؤدي الأفلام الكوميدية، والكريكاتورات وصانعي الميم (فن القص واللصق والتعليق) يستخدمون هذا النوع الذي يناقش قضية واحدة، محددة ودائمة وهي أخلاقية الهزؤ. ولكون معطياتهم ودأبهم على ارتياد واستبطان النفوس البشرية أقل من الساخرين، لذا يضعه الفلاسفة في درجة أحط من مراحل التعبير عن السعادة.

من التمثيلات السابقة يمكن استنباط مسببات الضحك، وقدرة الصانع والمتلقي على التواصل من أجل استثارة مجموعة هرمونات السعادة؛ فالسعادة هي الهدف الأسمى من وراء كل تلك المحاولات الفلسفية لتحقيقها وانتشارها بين الكائنات على مدى واسع.

تعتمد دورة السعادة في الكائن البشري على مجموعة من أربعة هرمونات (السيروتونين، الإندروفين، الأوكسيتوسين والدوبامين) تحفز المستثيرات العصبية على نقل الإشارة من الفص الخلفي للمخ والنخاع الشوكي، إلى الأعضاء المعبرة عن حدة الانفجار بالضحك، وتقوم مجموعة السيروتونين بمواجهة سيطرة موجات الحزن، الأسى، الكآبة، والبكاء التي يفرز هرموناتها المحفزة الفص الأمامي للمخ والمسؤول، أيضا، عن اتخاذ أغلب القرارات المصيرية في حياة الكائن الآدمي، فيعمل السيروتونين كمحفز على وصول المزاج العام للكائن إلى حالة من التعادل أو لنقل الانبساط، فيما يؤدي الإندروفين دور المسكن العام، والذي يحفز إنتاجه خارجيا، أيضا، المخدرات، المهلوسات والمثبطات، بجانب هرمون الأوكسيتوسين المسؤول عن الحب/ النشوة والموجود كندرة في الكائن البشري بعكس الحيوانات، مثلا، والذي يفسر الضحك دون موضوع، إضافة لهرمون الدوبامين الذي يعمل على تفسير الضحك النابع من المكافأة على إنجاز مهمة بدأب وإتقان. وتعد المعادلة البيوكيميائية الأساسية لدورة السعادة بداية من لحظة التأثر بمؤثر داخلي أو خارجي فتعمل المفرزات على إنتاج مقدار مناسب من الهرمون ليحفز نقل الإشارات العصبية من المخ إلى الأعضاء المسؤولة عن التعبير.

[إن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن العامين، كما يخبرنا علماء النفس، سيضحكون على مشاهدٍ غير متناسقة، حيث إن لعبة الاختباء عن الأطفال، والتي يجدها الأطفال مضحكة، حتى عندما لا يكونون قد تجاوزوا بضعة أشهر، هي واحدة من أقدم حالات التناقض، حيث يتم استبدال أحد الأشكال بآخر بسرعة. إن الأطفال، كما يُصرّ فرويد، يفتقرون إلى كل أشكال الإدراك بالعنصر الهزلي، ولكن من الممكن لذلك أن يشوش فهمهم للتصرفات السيئة المعروفة باسم النكات وعلاقتها باللاوعي.] ولكني أختلف هنا مع ما طرحه “تيري إيغلتون” في كتابه فلسفة الضحك لأنه ينقض تماما وجود العامل البيوكيميائي في دورة حياة السعادة داخل الكائن البشري، حتى قبل ولادته، وهو داخل المشيمة يتأثر ويُعبر، فموضوع الضحك اللاواعي ذلك، قد تم تفسيره نتيجة إفراز المحفز المعروف باسم الأوكسيتوسين، لكن كل أشكال التعبير الأخرى عن السعادة بالضحك لا يمكن أن تصبح لاواعية حتى في فئة الأطفال؛ فالطفل يولد بذاكرة أساسية لمصنع خلقه، يتم شحنها بالمزيد على مدار حياته، وحياة ذلك الكائن تبدأ من تكون الوعي في الشهر السابع من حمله داخل مشيمته؛ فلعبة التناقض المضحكة للأطفال لا يمكن تفسيرها على محمل اللاوعي، أبدا، مهما اختلفت التفسيرات.

في المثال السابق الذي استخدمه إيغلتون عن لعبة التناقض باخفاء شكل سريعا وإظهار غيره لطفل، فيما يدفعه للانفجار بالضحك، يمكن استخدام تفسير هنري برغسون القائل: تكون الأوضاع، والإشارات وحركات الجسم البشري مضحكة بمقدار ما يُذكّرنا هذا الجسم بالميكانيكية المجردة البسيطة. فالطفل الذي يضحك على هذه اللعبة البسيطة، هو يضحك بالأساس على التغير الميكانيكي لحركة المُلاطف وإشاراته النفسية والحركية وتعبيرات الوجه، فالطفل هنا بجانب تغير شكل بآخر مع اختلاف لونه أو إطاره؛ فهو يحلل الميكانيكية المجردة البسيطة، أو لنقل الشحنة الأساسية للذاكرة البشرية المخلوق بها الكائن.

إذا وكخلاصة فالضحك هو تعبير واع في غالب مراحله تتحكم فيه مؤثرات داخلية وخارجية معا، ويحفزه الهرمون المناسب بمقداره (والمقدار المناسب هذا يفسر، أيضا، وعي الكائن بدرجة حدة التأثر) ليحدث التعبير الانفعالي بالضحك وإشاراته الحركية، لتتم دورة السعادة في مواجهة نوبة حزن طاغية.

وكاستنتاج أخير؛ فالإنسان، ذلك الكائن المزمن لا يمكن له أن ينفعل دون وعي كامل بالزمن مهما اختلف المثير العصبي، فبمجرد إلقاء نكتة على مجموعة تجلس سويا، ستجد تأثرا يختلف حدته لكنه لن ينعدم بتاتا في المتلقين، فالنتيجة الأخيرة التي يمكن التوصل لها عبر فَهم انحراف مسارات الكوميديا اليومية والضحك، داخل الطبقات العصبية للنفس البشرية بين طبقات الفقراء/ الأثرياء وبين الفئة العمرية للفرد والجماعة، هي أن الضحك تأثر واع تتحكم فيه معطيات واعية وأدوات لاوعية تعمل كمحفزات، وللكائن القرار الأخير في التحكم بمستويات تعبيره عن الانفعال/ الانفجار/ الانفراط بالضحك.

Leave a comment