آلهة الشبق والشعراء وعازفي الجاز وآلهة الإلهام/آن والدمان/ترجمة: الحبيب الواعي

آلهة الشبق والشعراء وعازفي الجاز وآلهة الإلهام: آن والدمان عن الحياة في كوليج بنينغتون في أوائل الستينيات

قلم: آن والدمان

ترجمة: الحبيب الواعي

سيرة مختصرة

آن والدمان

 Anne Waldman

شاعرة وفنانة وأستاذة وناشطة ثقافية ولدت بمدينة ميلفيل في ولاية نيوجرسي عام 1945 وترعرعت في جوار غرينتش فيلاج بنيويورك. حصلت على البكالوريوس من كلية بنينغتن، ومنذ الستينات انضمت إلى جماعة شعراء الساحل الشرقي بأمريكا، والتي أصبحت تعرف بالجيل الثاني لمدرسة نيويورك للشعر. خلال هذا الفترة وطدت والدمان أيضا علاقاتها مع الأجيال السابقة من الشعراء بما فيهم كتاب جيل البيت، وخاصة ألن غينسبرغ وويليام بوروز. ساهمت في تأسيس برنامج مشروع الشعر بكنيسة سانت مارك وشغلت منصب مديرته من 1968 إلى 1978. في أوائل الستينات اعتنقت والدمان البوذية، وأصبحت تدرسها جنبا إلى جنب مع ألن غينسبرغ تحت إشراف الزعيم التيبيتي شوغيام ترانغبا رينبوشي. أسست مجلة ‘شعر ملائكي’ مع الشاعر لويس وارش عام 1966 وصدر منها ستة أعداد إلى حدود 1978. في عام 1974 أسست مع كل من غينسبرغ وترانغبا رينبوشي وديان دي بريما مدرسة جاك كيرواك للشعر التي يوجد مقرها بجامعة ناروبا في بولدر بكولورادو. حصلت على جوائز عدة منها جائزة منظمة الشعر، وجائزة منظمة الفنانين المعاصرين، وزمالة منظمة غوغنهايم وجائزة مركز الكتاب الأمريكيين وشغلت منصب مستشارة أكاديمية الشعراء الأمريكيين. صدر لها أكثر من خمسة وأربعون كتابا في الشعر والنقد من أهمها: ‘مناتي/إنسانية’، و’المرأة التي تتحدث بسرعة’، و’نذر من أجل الشعر. مقالات، حوارات وبيانات’، و’المسجد الأزرق’، و’ماكياج على أماكن فارغة’ و’زواج’ و’ثلاثية لوفيس: ألوان في ميكانيزم التخفي’ و’نسوية محتالة’ و ‘ابنة صوت قلب لم يولد بعد’ و’بنية العالم مقارنة بفقاعة’، كما أشرفت على تحرير ‘كتاب جيل البيت’ و’كتاب جيل البيبت في ناروبا’ و’العصيان المدني: الشعريات والسياسات كممارسة” و”عوالم متداخلة: شعريات عابرة للثقافات’.  تشارك في مشاريع فنية مع العديد من الرسامين والموسيقيين أمثال تورستن مور وكيكي سميت ومريديث مونك وديفن براهجا والدمان وجيمس براندن لويس وأمبروز باي 

مقتطف من مذكرات آن والدمان المنشورة في كتابها ‘ الشاعر، دائم الحركة’ (2023) الصادر عن دار كوفي هاوس بمنيابوليس، ولاية منيسوتا

في أوائل الستينيات، أثقل كاهل كلية بنينغتون للإناث بهموم شتى تتمثل في اللهجة الاقصائية واختلالات وظيفية خفية تتستر على اعتداءات أعضاء هيئة التدريس، وشعرت حينها بالقلق بشأن لقب ” الولع بالفنون” الذي طالما ارتبط اسم الكلية به. ولأننا كنا جميعنا “نساءً”، بدأت أتساءل إن كنا سنأخذ على محمل الجد، وأردت أن أقوم بشيء واحد على الأقل يستحق التنويه. لحسن الحظ، لم أعاني شخصيا من مخلفات الحساسيات المفرطة ومآسي الأوساط الأكاديمية الباترياركية إلا أن الوضع العام بالكلية سرعان ما انكشفت مساوئه

لطالما أثارتني آليات الكتمان والتمويه في صلتها بالنساء. شكلت الكلية ملاذًا من المدينة، وكان أعضاء هيئة التدريس الذين كرسوا حياتهم للفنون والكتابة يتوقعون من طلابهم نزرا يسيرا من ضبط النفس والصرامة. أرفقت طلبي للدراسة بالكلية بقصائد شعرية لأنني أعجبت بجماعة الشعراء الذين شكلوا هيئة التدريس وقد شكل الطلاب ذوي الحس الإبداعي المرهف القاعدة السائدة في معايير الاختيار

بدا هوارد نيميروف شخصًا خطاءً وناقصاً، لكنه كان شاعراً محترماً وأستاذاً ملهماً في بعض الأحيان -خاصة فيما يتعلق بكتابات ويليام بليك وويليام باتلر ييتس. لاحقًا، تم الكشف عن سفاح القربى المشين مع أخته ديان أربوس، وكانت الشائعات عن العلاقات مع الطالبات شيئا مألوفا، بل اصبحت للأسف سلوكا مقبولا في معظم الجامعات. كان ينبغي أن أكون أكثر غضبًا بسبب الخسائر التي لحقت ببعض الطالبات اللواتي أعاقتهن ديناميات السلطة وحسرة الفواجع في مثل هذه العلاقات إلا أن بعض هؤلاء الطالبات كن في تمام النضج (كما زعمن) وشعرن أن مثل تلك العلاقات تغذيهن بطريقة لا تخلو من مغامرات الإبداع

في أغلب الأحيان، كان هوارد يظهر في الفصل مشعثاً ومرهقًا بعد “ليلة مع ملهمة الشعر”، يسحب ورقة من الحجم الكبيرمن جيبه -قصيدة جديدة ربما. كان يحب أن يتجول قرب بركة المدرسة ممسكًا بيد أحد طالباته! قد نناقش جون آشبري، وفرانك أوهارا، وكتاب جيل البيت، وخاصة ألين غينسبيرغ، لأنه كان يفضل “ثقافة شعرية رسمية”، كما سماها تشارلز بيرنستاين؛ قلقة وملتزمة بخاتمة محددة

أدركت في وقت مبكر كيف يمكن التمييز بين الأكاديمي الذي يمثله عصاب رجل أبيض مغاير الجنس (“بعد أن روضتنا عقاقير ميلتاون، استلقينا على سرير الأم” كما يقول روبرت لويل)، وما أصبحت أسميه تقليد الشعراء “المنذرين” والذي يتميز بالعفوية، والاستطراد، والهشاشة، والمعارضة السياسية، ويرتبط من خلال مشاريع إبداعية بكتاب وفنانين آخرين لا تحركهم ضرورة الحصول على الجوائز، فذلك ليس غايتهم، بل هدفهم هو العمل خارج هياكل الرأسمالية

لم يكن الشعراء الذين انجذبت إليهم دائمًا من خريجي أو رؤساء شعب اللغة الإنجليزية. بصفتي امرأة، كنت مهتمة إلى حد كبير بتفكيك الدلالات، والقواعد، وانشغلت بتفكيك العقليات السردية المتشنجة وكنت أميل أكثر نحو الأداء والارتجال. بدت هذه القضايا أقرب إلى انشغالاتي بالقواعد الذهنية وبالتجربة

كان عمل جيرترود شتاين ممتعًا وطريفا وكان يفرض نفسه على القارئ، وكان ديوانها “أزرار حساسة” بالخصوص يتحرك في الزمن، وكانت المجاورات الغريبة والروابط السمعية التي صاغتها شتاين فريدة ونابضة بالحياة. كانت اللهجة العامية لـويليام كارلوس ويليامز غنية ومذهلة. عندما اقترحت أن يتم تدريس شتاين وإزرا باوند بجدية في بنينغتون، شعرت بالأسى مما رأيته من تحيزً لا يمكن تفسيره، فلم يتم استبعاد هذه الشخصية العظيمة وصداقتها مع العديد من الفنانين والمبدعين أمثال بيكاسو وماتيس وصالونها الأدبي النابض بالحياة باعتبارها شخصية “سخيفة” فحسب بل تم الاستهزاء بها. بالطبع، كان باوند معاديًا للسامية وبالتالي تجاوز الحدود. كان ينبغي أن أخوض معركة لوحدي

غير أن برنارد مالامود كان يشجع الفضوليين والمتطلعين وكان يشجع البحث في الحداثة والشعر المعاصر، وكان أيضا مساندا لكتاباتي.  كانت الندوات الخاصة تسمح بالاستفادة المتبادلة، بالرغم من أن بعضها كان محرجا ومهما في الآن نفسه، وكانت تنسيقيات المتدربين نادرة في الجامعات والكليات الأخرى في ذلك الوقت، ولذلك شعرت بأنني كنت محظوظة لأنني التقيت بكتاب وقراء جادين يمارسون فنهم بهدف وطموح، كما أنني التقيت أيضا بأساتذة متعنتين ومغرورين وأنانيين. كان التدريس في اغلب الأحيان شغفًا، لكنه يأتي في المرتبة الثانية بعد الممارسة الحقيقية ألا وهي العمل.  سررت بمشاهدة بديل تعليمي آخر عن قرب، وإن كان يتشكل من جماعة أكاديمية حصرية إلى حد ما

كان ستانلي إدغار هايمان، زوج الكاتبة شيرلي جاكسون اللامعة والغريبة الأطوار، يسكن في مكتبه المظلم محاطا بمجموعة من العملات الذهبية المتلألئة على هوامش ماندالا الحرم الجامعي. قام بتدريس فصل دراسي مثير بعنوان “الأسطورة والطقوس والأدب”، حيث أطلعنا على السمو الديونيزوسي في الدراما اليونانية الكلاسيكية، والألغاز المبهمة لقصائد تشايلد، والأطباق الشهية لبارسيفال الشاب الذي كان يبحث عن القدح الذي سيكشف سر الحياة. تحدى هايمان تصوراتي المسبقة حول أصول اللغة ودوافع الكتابة الشعرية وذلك بنقله النص إلى مستوى بدائي وسيكولوجي

هو نفسه بدا وكأنه إلاه الشبق – كثيف اللحية، ذو بصيص جامح في عينيه الخبيثتين. ماذا كانت طقوس عبوري، طقوسي الشخصية؟ كنت أحسد البطل الذكوري على حريته، الشاعر الذكر، كنت لا أزال ابنة ومع ذلك كنت أحمل الوافر من الطاقة الذكورية. هل كان من الضروري أن أسكر والدي والآباء اللاحقين كي أسرق أسرارهم؟ أن أداهنهم وأغريهم؟ أم أنني سأكون عذراء أثينا التي انبثقت من عقل زيوس وتدين له إلى الأبد؟ كان من الصعب أن تكون فتاةً في بعض الأحيان. كنت أنافس الرجال. كنت أتوق إلى حريتهم. علق نيميروف ذات مرة قائلا “لا أستطيع أن أعرف ما إذا كنت ملكة أم مزارعة!”

من جهة أخرى، كانت والدتي تتمتع بوافر الحرية، وكانت بالفعل أماً يافعة في أوائل العشرينيات من عمرها، منغمسة في ثقافة أخرى وتتحدث لغتها! وتعرفت على إيقاعات سامية من الشعر والمسرح والإبداع الفني والفلسفة الطوباوية. كانت كل من ستاين، لورا رايدنج ، هـيلدا دوليتل كاتبات جديرات باللاستكشاف والمحاكاة، وأردت أن أعرف طبيعة حبهن، وتفاصيل مسيرتهن الإبداعية، كما أردت ببساطة أن أعرف المزيد عن حياتهن الشخصية. بدأت أشعر بتباريح العلاقات المتوترة والصراع بين الحياة والفن، وبدا أنه كان صراعا من أجل التأكيد على العمل. هل كانت أجسادنا وحدها تشكل المصدر الوحيد لقوة المرأة؟ كنت أتوق إلى رؤية المزيد من الأستاذات يلتحقن بالطاقم الأكاديمي. كانت باربرا هيرنستاين سميث رائعة في طريقة تدريسها للرومانسيين، وكان تحليلها الشكلاني “للخاتمة” في سوناتات شكسبير مبهرا لكنها لم تشكل نموذجا لتوجه جديد في الشعر التجريبي

كانت الثقة الشعرية متذبذبة وزائغة. ما الذي كنت أتقنه؟ كنت أصدق أذني. كان إيقاع عميق ما في الجهاز العصبي يستدعي الانتباه إليه، ولم أكن أتقن صياغة الصور وكانت القصائد العظيمة مروعة. لقد أحببتها كثيرا. إن استمعت إلى الرجال وظللت مولعا بالكلاسيكيات قد تضعف أعصابك. هل كانت هناك أسرار لأسرقها حين أستمع بالأذن؟ بالعين؟ كنت أفتقد اللباقة أو البراعة ولكنني كنت طموحة، وكنت أؤمن بأنني طالبة مثابرة لأنني أحببت الشعر. كنت أجيد القراءة بصوت عالٍ ولكن لم أستطع الحفظ والإلقاء كما يحدث في المسرح، وتطلب الأمر مزيدا من الارتجالية كما يحدث في موسيقى الجاز. كنت أرغب في القيام بهذا العمل مع ممارسين آخرين ذو تفكير وشغف مشابه، ولذلك أنشأت تحالفات مهمة مع “الرجال” وكان العديد منهم أقرب إلى تصوري ومواقفي

تبينت صحة هذا التوجه بشكل خاص خلال السنة الأخيرة من دراستي حيث طورت وعززت بعض المراسلات مع شعراء من جيلي وسافرت بالفعل إلى مؤتمر بيركلي للشعر، وربطت صداقات مع ديفيد أمرام، ودان ويكفيلد، وجون هاموند جنيور، وكنت أذهب أحيانًا إلى حفلات موسيقى الجاز مع والدتي. كانت الزوجة الأولى لأخي مارك سيكليان، بوبي، متزوجة آنداك من عازف الساكسوفون ستيف لاسي وتعيش ابنة أخي بالقرب من منزلهم. خضت مغامرات عدة مع والدتي فرانسيس والتقيت بعازف البيانو ثيلونيوس مونك ذات يوم. اصحبتني والدتي أول مرة لحضور حفل ستيف في ملهى فيلاج فانغارد. سمعت أول مرة سيسيل تايلور حين زار كلية بينينغتون، وسمعت أول مرة دولار براند مع والدتي فرانسيس. كان هؤلاء عمالقة الفن وكنت أعرف ذلك. سمعت كارلا بلي بعد ذلك بقليل، وصان را لاحقًا. كيف أدخل هذه العوالم؟ وكيف ألج عوالم الفنون المرئية النشيطة على الدوام؟ من أين أبدأ؟ كنا نعرف الفنان أبرام لاسو

كانت الكلية توفر فترة عمل خارج زمن الدراسة والحضور ولذلك عدت إلى مدينة نيويورك في العام الأول حيث توليت عددًا من الوظائف العرضية، وكان العديد منها في مسارح مثل مسرح جنيسيس في كنيسة سانت مارك. عملت مرة أخرى في مهرجان شكسبير في ستراتفورد في الصيف الموالي، ثم في الشتاء اللاحق وبدعم من والدتي تمكنت من الحصول على وظيفة تطوعية لعدة أشهر مع المدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية في أثينا حيث ساعدت إحدى عالمات الآثار البارزات في عملها على القوارير التي كانت تستعمل في الحفاظ على الخمور والزيوت

كانت الدكتورة فيرجينيا جريس إنسانة مميزة، وإحدى المولعات باليونان القديمة. كانت تحيط بشخصها هالة أسطورية فقد أصيبت بإعاقة في سن مبكرة بسبب مرض  بوليو، كما أن الموت اختطف منها خطيبها في وقت مبكر، وبقيت عزباء ، متحمسة عرجاء، شغوفة باكتشافاتها. بدت وكأنها مقيدة بالأغلال إلى معبد أبولو. كانت شخصيتها، في نظري، تشبه إلى حد كبير الكاتبة المرموقة هيلدا دوليتل.  لقد اغدقت علي من رعايتها واهتمامها

كنا نتناول الغداء معًا في أغلب الأحيان. كنت أجلس لساعات في أغورا ستوا أتالوس الباردة، محاطة بسخانات كهربائية صغيرة، أقرأ وأدرج في كتالوغ العديد من القوارير التي تم العثور عليها خلال عملية حفر جديدة حول ستوا. كانت القوارير تحمل أختامًا مدهشة تحدد أماكنها الأصلية وساعدت في تحديد طرق التجارة القديمة. كانت تلك القوارير البهية تحمل النبيذ من وإلى الجزر، وإلى أماكن أبعد منها إلى إفريقيا وآسيا الصغرى، وقد قامت الدكتورة جريس بفهرسة ما يقرب من 1500 خاتم استخدمت على هذه القوارير القديمة. لم يتبقى سوى الخواتم ومقابض على شكل قضيب ذكري، وبعض الشظايا من الطين الروني البارد. كانت تلك القوارير تحمل أسرار الحضارة الهلنستية، نشوؤها وافولها

قمت برحلة جانبية إلى مصر على متن السفينة وشعرت أن حياتي تم شحنها من جديد بجرعات زائدة من الطاقة. فكرت في عبارة إزرا باوند “اصنع الجديد” أو “ليكن ما تبدعه جديدا”. لم تكن تلك العبارة تعني “كل شيء مباح” أو “أي شيء مقبول”، ولكنها كنات تدعو إلى العثور على نصوص قديمة أو مهمشة أو “صوتا” من أماكن أخرى، من أسلافك، شيء ما دعاك إليه ربما كي تتفق معه، لتصنع الجديد، لتستعيد ما فقد. كان للنصوص البوذية نفس التأثيرعلي

لقد انسلخت عن نفسي حينما جربت الوحدة، متجاوزة أي فهم مقيد “للذات”، فانجذبت إلى اليونان من خلال تجربة والدتي، وإلى مصر والهيروغليفية، ونصوص الطقوس القديمة. تعمقت في أغوار كتاب الموتى للمصريين القدامى. يقول إله الشمس رع في نصوص التابوت: “خلقت الآلهة من العرق والبشر من دموع عيني”. أردت استكشاف ووصف هذه التجارب السامية للانجذاب والغموض لأنتقل إلى أزمنة وأماكن أخرى، ولم يكن الأمر يتعلق بتفسيرها فقد كان أشبه بخلق الأساطير. هذه التيارات تستمر بنشاط وحيوية في نفس الشخص

أردت أيضا أن أكثف وأبلور الانطباعات وافهم ما شاهدته، وكيف أحافظ على كل ذلك ولو لبرهة. فجأة، وجدت نفسي في القارة الافريقية وبدا الأمر رائعا. لم أنسى أبدا كيف أنني قبلت الأرض حين بلغنا الإسكندرية (كنت حينها أقرأ رباعية الإسكندرية للكاتب لورانس ديريل بشيء من الحماس).  لن أنسي أبدا تلك الليلة التي قضيتها في عربة نصب لها علي وإخوته كمينا و كيف أرادوا أن يجردوني من ملابسي كي يروا فتاة أمريكية حقيقية. وكيف لي أن أنسى تخييمي على شاطئ البحر الأحمر الشديد الزرقة، وغطسي لاصطياد السمك بسكين كنت أضعه في حزامي المطاطي السميك. وكيف لي أن أنسي لطف القبطي اللبق وأسرته الذين كانوا يعملون في متحف بناك، وكيف تفضلوا بدعوتي للعشاء في مطعم عمر الخيام على متن قارب.  كانت القائمة توفر ما لذ وطاب من ألوان الطعام. أتذكر أن أمريكيا ثملا كان يجلس بالقرب من طاولتنا قد أحرجني بلغطه، وأتذكر أطفال الأقباط في القاهرة القديمة الذين رموني بالحجارة. أتذكر أنني ركبت الجمل في الجيزة وزحفت على أربع عبر الممرات الضيقة لهرم خوفو وتخيلت أنني اختنق بالرمل، وأتذكر أسئلة شباب العرب في كل مكان عن اغتيال الرئيس كينيدي. يفترض أن تكون لنائب الرئيس ليندن جونسن يد في ذلك. كانت لدي أيضا تساؤلات في الموضوع

لن أنسي كيف حاولت أن أنام تحت قمر الصحراء المضيء في البرية بالقرب من مدينة الأقصر تم تنبهت إلى خطر العقارب التي كانت تنتشر في كل مكان، وكيف أن شخصا غريبا وعنيفا تربص بي بينما كنت أحاول أن أركب القارب واصعد نهر النيل عائدة من معبد أبو سنبل. لقد حررت نفسي من قبضته وتأملت لبرهة في عبارة “الأنثى الصامدة التي نجت مجددا من الخطر”

الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب. صدر له ديوانين شعريين بالإنجليزية ومجموعة من المقالات الأدبية عن التاريخ الأدبي والشعرية الأمريكية لما بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى ترجمات لدواوين شعرية منها ‘المطر القديم ‘لبوب كوفمان، و ‘رسائل ثورية’ لديان دي بريما، و ‘حبس لأجل غير مسمى’ لمايكل روتنبرغ، و ‘ ما الجهاز ومقالات أخرى’ لجورجيو أغامبن.

Leave a comment