تيد جونس،السريالي الذي صدح صوته بالحرية في ثلاث قارات /تقديم وترجمة الحبيب الواعي

من القاهرة إلى تومبوكتو: تيد جونس، الشاعر والفنان الأفروأمريكي

السريالي الذي صدح صوته بالحرية في ثلاث قارات

تقديم وترجمة الحبيب الواعي

حياته

عندما نتصفح تاريخ الأدب المكتوب أو ما يطلق عليه الأدب المُعتمد فإننا نكتشف أنه يتميز في حقب زمنية عديدة بنوع من الإقصاء، أو نوع من طمس الهوية لإسكات أصوات فكرية تتحدى المفاهيم الأدبية و المعيارية الغربية المهيمنة على نظرية الأدب والنقد الأدبي. يشتد لغَطُ المتزمتين بالخصوص حينما يتعلق الأمر بكتاب ينتمون إلى أقليات تتميز بسمات ثقافية مختلفة عن تصورات الإنسان الأبيض. تتضح إنعكاسات مثل هذه التصورات المتزمتة بشكل صارخ عندما نتصفح تاريخ ومنجز الأدب الأفروأمريكي الذي ينتمي إليه الفنان والشاعر تيودور جوانس

ولد تيودور جونس يوم 4 يوليوز عام 1928 على متن زورق في مدينة القاهرة بولاية إلينوي الأمريكية. كان والده فنانا يعمل على متن القوارب النهرية التي كانت تستعمل لأغراض تجارية ومواصلاتية على نهري المسيسيبي وأوهايو، ومن شدة حبه للموسيقى فقد غرس في ابنه الصغير أخلاقيات الكد في العمل وحب موسيقى الجاز قبل أن يودعه ذات يوم  قرب قارب في مدينة ممفيس، مانحا إياه آلة ترامبيت. ترعرع جوانس في فورت ويني بإنديانا و لويفيل بكنتاكي وحصل على شهادة في الفنون الجميلة من جامعة إنديانا

استقر به المقام في غرينتش فيلاج بنيويورك عام 1951 وبدأ يرسم بأسلوب أطلق عليه إسم فعل الجاز مستمدا إلهامه من فنانين طلائعيين أسسوا المدرسة التعبيرية التجريدية أمثال ويليام دي كونين  وفرانز كلاين. تقاسم إلى حد ما الميولات الجمالية لشعراء مدرسة نيويورك إلا أن غينسبرغ شجعه على أن يتبنى أسلوبا جديدا يضفي نكهة موسيقى الجاز على قراءاته الشعرية، وعلى غرار رواد المدرسة التعبيرية التجريدية الذين طوروا تقنية التصوير الإنفعالي طور أسلوبًا شخصيًا يعتمد على الإلقاء الشفهي أطلق عليه شعر الجاز. خلال إقامته بنيويورك، أسهم أيضا في الأنشطة الأدبية والثقافية لجيل البيت وربطته علاقة صداقة برواد هذه الحركة الأدبية أمثال جاك كيرواك وألين غينسبرج وأميري بركة، وغريغوري كورسو ، وديان دي بريما

إنخرط جوانس في الحركة السريالية إبان إلتقائه بجوزيف كورنيل، وفي عام 1961 إنتقل للعيش في باريس بعد تأكده من أن المشهد الثقافي الذي تمخض عن حركة جيل البيت قد بدأت تسيطر عليه قيم الإسهلاك والتسويق. هناك في باريس، رحب به أندري بريتون بعد أن توصل منه برسالة يقول فيها: “من أكون؟ أنا أفرو أمريكي وإسمي تيد جوانس(…) ولدت عام 1928، السنة التي صدرت فيها “نادجا” و “بحث في الأسلوب” و “الروح ضد العقل”[1]، ولتخليد هذه الذكرى أبدع جوانس قصيدته “موعد نادجا”. جذب شعره إنتباه بروتون فأثنى عليه، وهو الكاتب المعروف باحتياطه الشديد من توزيع المجاملات بالمجان، معتبرا إياه “السريالي الأفرو أمريكي الوحيد”[2]

بمجرد وصوله إلى باريس، التقى جوانس أيضًا بألين غينسبرغ وبراين غايسن الذي كا ن يشتغل مع ويليام   بوروز على تقنية التقطيع في غرفة داخل فندق بسيط عرف لاحقا بفندق البيت. أثناء إقامته في باريس سيتعرف جوانس عن قرب على بطل  طفولته سلفادور دالي الذي سرعان ما انفصل عنه، وسيتعلم الفرنسية ويتخذ مقهى في شارع سان جيرمان دي بري مقرا له يستقبل فيه أصدقاءه وبريده. وفي باريس أيضا سيلتقي صدفة بحبيبته الفرنسية كريستين غوندر والتي ستجسد في نظره شخصية “نادجا”. سيقع جوانس في حبها ومن باريس ستنطلق أسفاره إلى هولاندا، وألمانيا وإنجلترا والمغرب ومالي وجنوب إفريقيا سيرا على الأقدام في أغلب الأحيان. كان يقضي وقته بين تومبوكتو وأمستردام ونيويورك وبذلك أصبح جديرا بلقب”شاعر أفرو-أمريكا المنتسب للقارات الثلاثة” 

شعرية أفروأمريكية مشبعة بموسيقى الجاز

شعر جوانس مزيج من توجهات أدبية طلائعية تجمع بين إيقاعات موسيقى الجاز  وأساليب التعبير السريالي والروح الثورية لبوهيميي جيل البيت. يقول تيد في قصيدته “أراني”: “لعب جيل البيت دورا مهما في حياتي. وقد تعرفت أيضا على بعض أفضل مفكري ذلك الجيل”، ويؤكد هذا الإعتراف في قصيدة ثانية معنونة ب “أنا أيضا في البداية” حيث يقول

أنا أول شاعر أسود ينتمي لشعراء البيت

ألقيت شعري مع بعض

أفضل عقول جيل البيت

حين كانت نيويورك تزهر بجيل البيت…

وكيف لا يتأثر بموسيقى البلوز والجاز وهو الشاعر الذي ترعرع في عصر البيبوب، كما أنه صاحب عمالقة الجاز أمثال ديزي غلاسبي و شارلي باركر.  كل ذلك جعل جوانس يتبنى شعاره المشهور “موسيقى الجاز ديني والسريالية وجهة نظري” ليس على المستوى النظري فقط ولكن كفلسفة حياة يطبقها في واقعه اليومي. الجاز بالنسبة لجوانس هو ” أكثر أشكال الفن ديمقراطية على وجه الأرض، إنه موسيقى سريالية. السريالية مثلها مثل الجاز ليست أسلوبًا، وهي ليست مقاربة دوغماتية للفنون مثل التكعيبية

يتجلى تأثير الجاز على جوانس في إعجابه بالإلقاء الشفهي للشعر، ولعل هذا النزوع ما جعل النقاد يعتبرونه أحد أهم المؤثرين على فن الصلام. يقول جوانس في هذا الصدد:” فيما يخص الشعر، ما يهمني أولاً وقبل كل شيء  هو الصوت والإيقاع، ولا يتعلق الأمر عندي بالمعجم والكلمات كثيرًا، ولكن بالصياغة في حد ذاتها ويرجع هذا الإهتمام إلى الطريقة التي نتعامل بها نحن السود مع الكلمات”. ولعل من أهم اللحظات التاريخية التي أبان فيها جوانس عن أهمية الجاز كفن يعبر عن أصالة الإنسان الأسود تلك التي وقف فيها في شارع من شوارع الجزائر العاصمة خلال المهرجان الثقافي الأول  للوحدة الإفريقية عام 1969 مخاطبا الملأ: “مازلنا سودا وقد عدنا. لقد عدنا وأعدنا إلى أرضنا، إفريقيا، موسيقى إفريقيا. الجاز قوة السود! الجاز قوة السود! الجاز قوة إفريقية! الجاز موسيقى إفريقية!” لقد كانت لحظة تاريخية امتزجت فيها الأرواح بتراب الأسلاف من خلال موسيقى روحية عزفها أرشي شيب مرفوقا بإيقاعات موسيقيي الطوارق

يؤمن جوانس بقدرة الشعر على تغيير الأفكار وخلق التعاطف، ويربط هذا الفهم بمقولة عازف الجاز المشهور ديوك إلينغتون الذي قال: “لا معنى لشيء لا يجعلك تتهادى وتهتز”. ويتضح تأثر جوانس بمفهوم الإرتجال والعفوية باعتبارهما من المبادئي الأساسية لموسيقى الجاز في أسلوب الكتابة والإلقاء. يقول جوانس: “يمكنني أن أكتب قصيدة جاز حول أي موضوع، ومعظم قصائد الجاز التي أكتبها تعرض للأشياء التي أحبها، والأشياء التي أكرهها، والأشياء التي أتعاطف معها؛ غير أن شعر الجاز ليس كلمات أغان: عندما تبني شعرك على النظم فإنك تحاصر نفسك، ونفس الشيء يحدث مع التمرن المتكرر، لأنه في كل مرة ألقي قصيدة ستكون بالضرورة مختلفة. أنا لا أغير الكلمات، ما يتغير بشكل كلي هو الصوت والإيقاع”. في سياقات متعددة، يتحدث جوانس عن فناني الجاز باحترام كبير ويتفانى في الإعتراف بهم كما هو الحال في قصيدته المشهورة “الجاز ديني”

الجاز ديني ولا أستمتع إلا به

نوادي الجاز أماكن عبادتي

أشتري أسطوانات الجاز لأستمتع بها في وحدتي

معظم موسيقيي الجاز المتمرسين فقدوا

أرواحهم إلا أن الجاز

لا يزال هو ديني لأنني أعرف وأشعر بالرسالة

التي يحملها

أمثال القس ديزي غلاسبي / الأخ بورد

وبيسي / العم

أرمسترونغ / الكاهن مونك / الشماس مايلس ديفيس /الخوري

رولينز / الأب إلينجتون / سعادة هوراس سيلفر / و البابا

العظيم جون، جون كولترين وسيسيل تايلور

 إنهم يلقون خطبة

تتهادى أبد الدهر !!

بلاشك يمثل جوانس جسرا مهما يربط بين إستطيقا جيل البيت، وثقافة الجاز والسريالية الأوروبية وروح الإنتماء للأمة الإفريقية، فهو الذي يستلهم عمله من  مؤسس حركة نهضة هارلم لانغستن هيوز، ومن صاحب البيان السريالي أندري بروتون، وﻷنه نشأ في بيئة أمريكية تحكمها االتناقضات فقد كان واعيا بمخاطر الوضع الهش للإنسان الأسود، مما دفعه إلى اتخاذ الجاز وسيلة للنضال وتوسيع نطاق الوعي. في كثير من كتاباته، يندد جوانس بأشكال الظلم والعنصرية والقمع الجنسي والإستغلال الإمبريالي ويميل إلى استعمال أساليب لغوية تهكمية وصادمة بإيروتيقيتها، منقوعة في غالب الأحيان  في وعي زنجي يستنكر الظروف الوجودية المزرية

سريالية أفروأمريكية تستمد روحها من حركة الفنون السوداء

إلى جانب موسيقى الجاز، تأثر شعر جوانس بالحركة السريالية التي ظهرت كرد فعل على التدمير الذي أحدثته العقلانية الأوروبية والتي نتج عنها دمار الحرب العالمية الأولى. وبالرغم من أن جوانس تفاعل مع هذه الحركة في سنواتها الأخيرة بعد أن تم نفيها إلى نيويورك، فقد رفض أن ينظر إليها كحركة أدبية وفنية إنتهى دورها بانتهاء سياقها الثقافي والسوسيو إقتصادي والسياسي. تبقى السريالية في نظر جوانس سلاحا خارقا تستدعيه الضرورة لتحرير الإنسان. كان جوانس يميل إلى استكشاف اللاوعي واللامعقول، ومتاهات الأحلام والروح، ومثالية الحب، باعتبارها مجالات تساعد على التحمل والإحتجاج على الإضطهاد من خلال التكافل الإجتماعي والنضال الشعبي. تمكن جوانس من خلال إطلاعه وتفاعله مع السرياليين من إكتشاف عالم تعيش فيه الأفكار حرة وينمو  فيه الخيال

ولعل الدافع الأساسي الذي دفع جوانس إلى تبني السيريالية يكمن في مناهضتها للاستعمار، والراديكالية والعنصرية إتجاه الكتاب والفنانين المغتربين، وفي تنديدها بـأعطاب الحداثة وأشكال اللاتكافؤ الحاصل عند تطبيق مثلها، وهو موقف يتفق مع مباديء حركة الفنون السوداء. يقول جوانس في هذا الصدد في رسالته إلى بروتون: ” بدون السريالية لم أكن لأتمكن من النجاة من التقلبات الفظيعة والسلوكات العنصرية العنيفة التي فرضها علي باستمرار الرجل الأبيض في أمريكا. أصبحت السريالية السلاح الذي اخترته للدفاع عن نفسي، وهي كذلك كانت وستظل دائمًا طريقتي في الحياة”. إن شعر جوانس لا يتبنى التجديد السريالي على مستوى الأشكال والأساليب فقط بل يستخدمه كوسيلة لمساءلة مشروع الحداثة نفسه. يكمن تميز السريالية عن الحداثة الأوروبية والأمريكية بالنسبة لجوانس في كونها لم تؤيد الإستيلاء على مقومات وأشكال ثقافة الشعوب الأصلية كما حدث مع التكعيبية مثلا، وهي سلوكات يرفضها جوانس كما تبين قصيدته”هارلم إلى بيكاسو” والتي يقول فيها

يا بيكاسو،  أليست تلك الأعين التي تملكها مغاربية

هل يمكن أن تكون في روحك المنحذرة من ملاقا نطفة من إفريقيا

يا بيكاسو  ولماذا تطرح فضلات اليونان و الرومان والفضلات الأكاديمية الأخرى

تم تلتقط البيبوب الديني لأسلافي

يا بيكاسو  كيف فطنت أن الفن الأسود

سيبعث الحياة في عالم الفن الحديثا

لقد لاحظ جوانس بأن التوجه الثقافي والممارسة اليومية لرواد جيل البيت بدأت تتجاهل الخصوصية التاريخية وتجربة الإضطهاد التي عاشها الأمريكيون السود عندما شرع الإقتصاد الرأسمالي في إدماج أسلوب حياة البيت وأفكارهم في نموذجه الإستهلاكي، وخاصة عندما اكتفى رواد جيل البيت باستحضار سلوكات السود وأسلوب حياتهم  وموسيقى الجاز فقط كمكمل استيطيقي

 ويتجلى تأثر جوانس بالسريالية أيضا في أعمال الكولاج التي تذكرنا بأسلوب ماكس إرنست. أبدع جوانس أعمالا تتميز بنهاية غير مصقولة وغير مكتملة ويرجع هذا التصور إلى تجربته وتأثره بعادات الأفروأمريكيين الذين يزينون جدران مساكنهم بالملصقات، وهي في نظره ممارسة متداولة بين السود ولا تعزى إلى الحداثة الأوروبية.  تتكون معظم كولاجات جوانس من أجزاء صور قطعت من مصادر مختلفة تحيط بها كلمات بأشكال مختلفة يتم لصقها على الصفحة،  كما أنه يستعمل إستراتيجيات مطبعية وتصويرية تعتمد على تقنيات إعداد  عناوين الصحف والإعلانات، بالإضافة إلى تنوع الخطوط وبنية النصوص التي تتناسب مع متطلبات الواقع المتشظي

 في عام 1961، نشر جوانس كلا من ديوانه “كل أعمال تيد جوانس ولا أكثر” و روايته ” الهيبيين” المكونة من كولاجات، ويتناول في هذين العملين التلاقي بين الثقافات والهوية الإتنية والشطط الذي يحيط بتوزيع الرأسمال الثقافي.  في أكتوبر 1963

نشر مقتطفات من رسائله إلى بروتون مرفوقة بكولاج معنون ب”إكس” في مجلة

La Brèche

، ويبدو ذاك الكولاج وكأنه رسم توضيحي غير منسجم للرسالة التي بعث بها جوانس إلى بروتون. تشير جوانا باوليك إلى هذا اللاإنسجام حين تقول: ” في الحقيقة، من الصعب أن نتخيل طريقة أشد غرابة للتعريف بكاتب “حداثي” من جيل البيت من كولاج يهيمن عليه تصوير لماري أنطوانيت وهي تتجه إلى المقصلة، مشهد يبدو من الناحية التصويرية وكذلك الجغرافية والزمنية بعيدا كل البعد عن بيئة كتاب جيل البيت و الهبيين.”[3]

في عام  1968، نُشر بيانه ” القوة السوداء” في مجلة

L’Archibras،

والذي وصف فيه بشغف رؤيته لمستقبل بدون إمبريالية أمريكية أو عنصرية، مستقبل يقوم على أنشطة حرب عصابات لسرياليين ينحذرون من مدن كبرى.يقول جوانس في هذا البيان: “القوة السوداء هي أحلام تتحقق في الواقع. القوة السوداء تسيطر على الواقع وما وراء الواقع لتتحرك فيه. أسلافنا الأفريقيين خلفوا لنا ثروة تتمثل في سريالية مذهلة/  لم تبرز القوة السوداء لتفوز بنضال الحقوق المدنية بل بنضال بحقوق الإنسان. القوة السوداء تشبه الجاز، إنها مبنية على حرية النفس/ النفس سوداء.  لا ينبغي أن يفقد شعب السود حرية أنفسهم”.

قضايا مختلفة وانشغالات عديدة

ألف جوانس أكثر من ثلاثين ديوانا توجت بكتاب يضم قصائده المختارة والذي عنونه ب”تعاليم تيد: 1949-1999″. اقتحم عالم الفن والشعر بديوانيه ” قصائد البيت” (1957) و”قصائد الجاز” (1959) قبل أن يمتطي صهوة الشهرة بمجموعتين شعريتين “باو-واو أسود: قصائد جاز” (1969) و “أفروديزيا: قصائد قديمة وجديد” (1969). على غرار شعراء أفروأمريكيين سرياليين آخرين يؤمن جوانس بموقف فرانز فانون القائل بأن إفريقيا ملزمة بأن تكون ما لم يستطع الإنسان الأوروبي أن يكونه، ومفاذ هذا أن الإنسان الإفريقي ملزم بأن يتجاوز ما حققته أوروبا وذلك بابتكار أساليب جديدة للتعبير

 يدعو جوانس إلى استخدام السحر الأسود والسحر الأبيض كما سماه في حوار له مع هنري لويس غيتس، والذي يعني به الوسائل التكنولوجيا التي اخترعها الإنسان الأبيض. في مؤلفه “الهبيين” (1961)، المكون من رسومات كولاج، يصف لنا جوانس الشخصية الرئيسية وهي تحاول أن “تستمتع بالفاكهة الباذخة للديموقراطية الأمريكية” دون أن تخضع لقواعدها التي تسعى إلى جعل الأفراد يرضخون لتقاليد الإنسان الأبيض. بالنسبة لجوانس “الهوية البيتنيكية” أو “الإنسان “الهيبي” لا تكمن دلائل إنفصاله  عن التيار السائد فقط في لحيته ونظاراته ذات الإطار السميك والطبول بل في “جنونه” وعشقه للمعرفة وتعرضه للعنصرية بسبب العرق أو الجنس أو النوع أو الدين.أَثَّث جوانس العالم  السميائيي لعمله “الهبيين” بنماذج “هيبية” أفروأمريكية، وإنويتية وماوماوية معلنا بأن “الهيبي” يمكن أن يكون من أي عرق أو مذهب

أما في ديوانه “أفروديزيا”(1970) فيتناول جوانس موضوع الجنس والجندر من خلال وجهة نظر أفروأمريكية تبجل المرأة باعتبارها رمزا للخصوبة والحياة والحب. لم يكن جوانس يحب النساء فقط، ولكنه كان أيضًا يحترمهن لحكمتهن وقوتهن ولذلك أهدى كتابه “أفروديزيا” للأخوات بمختلف ألوانهن ولوالدته. كان جوانس نسويا في عمقه مما دفع به إلى ابتكار كلمة جديدة

femmoiselle

ينعت بها المرأة التي تربطه بها علاقة حميمية ورفض استعمال كلمة “الصديقة” أو “الزوجة” غير أنه كان أيضا حذرا من النساء البيض المنحدرات من الطبقة الوسطى واللواتي يتظاهرن بالإنتماء إلى “الهيبي”. كان يؤمن بالحب المجنون والحكمة الأنثوية وبقدرة النساء على الإسهام في إصلاح أعطاب العالم التي يرى بأنها تنتج في غالب الأحيان عن تنافسية السلطة الذكورية، ودعا إلى الإنصات للنساء لتحقيق السلم العالمي

لم يكن جوانس يدعم أي توجه سياسي ولم ينشغل بالكتابة عن السياسيين ولم يكن يحتج عليهم لأنه كان يعلم بأن عالم السياسة عالم بذيء وكان متعاطفا مع مالكولم إكس إلا أنه كان يرفض أن ينخرط في أي نوع من النضال سواء على مستوى النظرية أو الممارسة كما بين في قصيدته “بعض الكلمات الكئيبة لذوي العقول”حيث يقول:

أن تصرخ/ تهذي/ تتبجح     هو أن تكون

مناضلا

للغاية غير أن ذلك لا يعبر عن الشجاعة

(خاصة عندما تكون أمام جمهور يتكون فقط من السود)

أن تصرخ/ تسخر/ تزمجر/ و حتى أن تضرط

هو أن تكون

متحمسا/ مهتاجا ولكن

كل ذلك لن يوقف قلبا أبيضا

أن تلعن/ وتطلق عليه الألقاب (كلها صحيحة) ليس حقا

أمرا سيئا إلا أن ذلك

يجعل شعرنا الأسود

يبدو حزينا

ولأنه مولع بالسفر عبر صحاري أجداده الأفارقة فقد خصص جوانس كتابه ” ملعقة عسل” (1991) لأسفاره ومغامراته في إفريقيا، وأهداه إلى الفنان المغربي أحمد يعقوبي، كما شكر في بدايته كل النساء على صحبتهن ومساعدته على إنجاح رحلاته في الصحراء.في هذا الكتاب الذي بدأه في طنجة كقصيدة عيد ميلاد لصديقه بول باولز، يعتمد جوانس على أسلوب نثري حكائي سلس حيث فضل ألا ينهي جمله بنقط ونادرا ما يستخدم الفواصل، وذلك لأنه كان يتوق إلى الحفاظ على التأثير الموسيقي للأسطر الشعرية التي تبدأ بضمير الغائب “هو”. من يكون ذاك “الهو” يا ترى؟ هذا السؤال الذي يطرحه جوانس في نهاية كتابه ليؤكد لنا تعدد هوياته وهو الرحالة الهائم الذي يبجث عن أصوله ويرفض الإستقرار أو حتى أن يشتري سيارة لأنه يشعر بأن ذلك سيحرمه من حرية التنقل.

هناك الكثير من أعمال جوانس، سواء تعلق الأمر بالكتب أو بتسجيلات صوتية أو أفلام، لم ترى النور بعد وقد تم شراء أرشيفه الذي يضم مراسلاته مع مجموعة من المبدعين أمثال لانجستون هيوز ، ميشيل ليريس ، إيمي سيزير ، روبرت كريلي ، جين كورتيز ، ستوكلي كارمايكل ، إشماييل ريد، بول بولز ، فرانكلين وبينيلوبي روزمونت من طرف جامعات مرموقة.

غادر جوانس العالم في نهاية أبريل 2003 بسبب مضاعفات ناجمة عن مرض السكري. لا أحد يعرف التاريخ المحدد لموته فقد كان يعيش بمفرده في ذلك الوقت في شقته بمدينة فانكوفر التي انتقل إليها ﻷنه لم يستطع أن يتحمل الإضطهاد الذي تتعرض له الأجيال الصاعدة من السود. ظل جوانس نشيطًا، ومثيرا للجدل  ومفعما بالحيوية حتى توفته المنية تماما مثل وحيد القرن الذي كان يعتبره حيوانه الطوطم. كان جوانس أمريكيًا بعمق وكان دائمًا يعيش على الحافة، كان فنانًا حقيقيا لم يكن من السهل تحديد معاييره ويستحق الإحتفاء به كنموذج للمبدع الحقيقي الذي سعى لإبراز قيم العدل والمساواة والتعايش

تيد جوانس

(مختارات شعرية)

الحقيقة

إن حدث أنك رأيت رجلا

يمشي في شارع

مكتظ

   وهو يتحدث   

      بصوت مرتفع

مع نفسه

         فلا تركض

           نحو    

الاتجاه المخالف

           ولكن أركض

باتجاهه

          لأنه

             شاعر 

لا شيء

       تخافه

من

      الشاعر

          سوى

 الحقيقة

إفريقيا

إفريقيا، أنا أحفظ ذكراك

إفريقيا، أنت تسكنينني

مستقبلي هو مستقبلك

جراحك هي جراحي

أغاني البلوز التي أطبخها

هي سوداء مثلك-افريقيا

أرضي الأم

أمريكا هي أرضي الأب

بالرغم من أنني لم أخترها

إفريقيا، أنت وحدك تستطيعين أن تحرريني

إفريقيا حيث الكركدن يتيه

حيث تعلمت أن أرقص

قبل أن تصبح أمريكا وطني

ليس كقرد بل في أعماق روحي

إفريقيا، أنت الأغنى ذهبا

إفريقيا، أعيش وأتعلم من أجلك

ومن خلالك سأتحرر

يوما ما سأعود وأرى

أرض أمهاتي حيث خلقني إلاه أسود

إفريقيا قارة تتوق الى الحرية

سيسمع دويّ الدّويّ يا عزيزي

أيها الشرطي! لماذا تحمل مسدسا؟ لكي تطلق النار علي

إن بدأت أركض … أم لأنك إنسان خائف؟

هل تذهب للنوم مع امرأتك

ومسدسك في يدك؟

أيها الشرطي لماذا تحمل مسدسًا؟ لتقتلنا إن لم نطع؟

لتقتلنا جميعا بالطريقة القانونية …

أم لأنك مجرم بالزي الرسمي والجريمة تدفع لك؟

أخبرنا أيها الشرطي لماذا تحملون كلكم السلاح؟

ألا يمكنك تطبيق القانون بدون مسدس؟

هل أنت خائف من العامة، ولذلك أنت بحاجة إلى مسدس؟

هل يمنحك المسدس قوة الحياة والموت؟

حسنًا أيها الشرطي أنا أيضا سأحمل سلاحا

سأحمل مسدسًا لأحمي نفسي منك

وعندما نختلف / كلانا يعرف / بالضبط ما ينبغي فعله: أطلق النار يا عزيزي!

شَذرَة ساكسفون

هذه القصيدة مجرد

قصيدة للتعبير

عن الشكر

هذا الثعبان المعدني الأحجن/ بوق مقدس بأغطية تشبه

قدح جعة/ ذو ذيل قضيبي، لماذا اخترعوك

قبل ميلاد كولمان هوكينز؟

قناة النغم اللامعة والمتقوسة هذه/معلقة وكأنها أعدمت/ 

هذا الحرف الإستهلالي من كلمة جاز على شاكل حرف

J /

هاديء بدون قَصَبَة، عندما داعبه كولمان هوكينز في البداية/

عندما قبله بصوت زنجي هل تَجَهَّم البلجكيين الذين امتصوا دم الكونغو؟

هذا التينور / هذا الألتو / هذا الباس / هذا الباريتون / هذا السوبرانو / أنين /

بكاء وصراخ بالصوت! سيكس-أو-فون/ الساكسفون هو الصدع بقول الحق!

أي إرتعاشات تخللت أدولف ساكس  حين أمسك بين  بساكسفونه؟

هذا المنجم الذهبي ذو مليون صوت رائع/

نوتات زنجية بظلال لا تحصى / أو أنبوب معوج

وفارغ لأداء رديء أبيض تقني/ مفاتيح معدودة

لا تفتح أبدًا أبواب الروح /  آلة صنعها إنسان أبيض

وأنقذها كولمان هوكينز منذ البداية!

خلاص الساكسفون هذا / هذه التَمِيمة الحديثة التي تتدلى

من أعناق عازفي الجاز وضعها كولمان هوكينز هناك،

ساحر الجسد والروح المبهر الذي تسكن روحه إلى الأبد

في كل ساكسفون الآن وفي كل ما يخاطب بالصوت مستقبلا


[1]تيد جوانس، مجلة لابريش، العدد الخامس، أكتوبر 1965

[2]هنري لويس غيتس، تيد  جوانس: الشاعر المنتسب للقارات الثلاثة، مجلة ترانزيشن، العدد75-76، ص 365-372، منشورات جامعة إنديانا، 1997.

[3]جوانا باوليك، صنع من جديد في أمريكا: الفن السريالي، النضال والسياسة 1940-1978، ص 121

Leave a comment