باص أزرق سريع، يبتلع المدينة..رواية قصيرة جدا / أحمد فرحات

باص أزرق سريع، يبتلع المدينة..

رواية قصيرة جدا

ـــ

فاصل أول؛

أرى صورا صغيرة بحجم كف اليد، خالصة الزرقة، بعضها اختلط بلون لم أميزه جيدا، قد يكون الأخضر القاتم أو الأسود، لا أعرف؛ لم أتأكد مرة من دقة الألوان، المهم أن تتابع الصور المقسمة في نيجاتيف لا ينقطع، كلها، بدون استثناء، تكمل مشهدا لحرب تدور. كنت قبلها، على ما يبدو، أشاهد أحد الأفلام التسجيلية المعادة، فيلم عن حرب عالمية، أو ما إلى ذلك

استفقت على صافرة إنذار، وربما كانت سارينة شاحنة تمر. الأيام الماضية بما امتازت به من هدوء، صمت وفراغ قاتل، أضافت إلى حياتي نوعا جديدا من الملل، ملل زائد عن الحاجة، دفعني لاستهلاك كل ما بقى في خزنة الطعام والبراد. ربما الجوع مع مشاهدة شريط الفيلم الممنتج عن الحرب أو التهجير الذي كنت أتابعه قبل أن أغفو، ساعد في الاستفاقة على تتابع الصور المزعجة، المرتبة ترتيبا منطقيا وبظلالها المتنوعة. في الحقيقة لم تكن مزعجة بقدر إزعاج الجوع، إلحاح معدة خاوية، كمشاعر متفاوتة بين رنين صوت طفل يلعب وقاطرة تضج عجلاتها فوق أسفلت خشن

كلما ترددت على المطبخ، أفتح البراد، أراجع الرفوف، مرة بعد مرة، أتحسس فراغها، أمد نظرة عميقة باتجاه باب الفرن المغلق منذ أسبوع، علني أكون قد نسيت أحد الأطباق الممتلئة؛ أصاب بخيبة. أتأكد من خلو الخزنة الخاصة بالحبوب، الزيت، المسلى، الطحين؛ لا شيء، كل ما كان استهلكته كاملا خلال الأسبوعين الماضيين، أفكر بشأن العائلات الساكنة بالحي، إلا أن خيبة أمل جديدة تضاف؛ فالحي بأكمله يخلو من دبيب أي كائن حي، حتى أن بعض الهررة المنتشرة فيما خلا، اختفت

يناوبني الجوع من دقيقة لأخرى، يلح، أفكر بتزايد متلاحق في الطعام، أنواعه، أشكاله، ترتيبه فوق المائدة، مذاقه، أيها أفضله وأيها لا استسيغ طعمه؛ الحامض والحار يزيدان شهيتي نحو الطعام، أكره الحلو بكل ما فيه من أنواع، لا أطيقه؛ تجذبني اللحوم المالحة أكثر من أي طعم آخر؛ أنا كائن أعيش على اللحوم وقليل من البقوليات. يزداد التفكير أكثر، تستثار شهيتي، أتحرك من المطبخ إلى الغرف ومن ثم أعود لأقف أمام البراد، أتذكر شكل امتلائه، أتأكد من قنينة الغاز، دائما ما كانت تسرب محتواها؛ غير أنها مازالت تعمل.

مع تزايد الشعور بالجوع نسيت الصور المتتابعة لمشاهد قد تبدو مقتطعة من الحرب، زرقاء، خضراء، سوداء، لا يهم؛ مع الوقت نسيتها تماما وانصب كامل تفكيري فيما أنا جائع، عن أي الطرق المناسبة لسد هذا الجوع الآن، غدا، وبعد غد ولأيام قادمة؛ فخلو الحي، القرية، وحتى المدينة القريبة من كل شروط الحياة، مزعج، مخيف، جاحد، ويشي بأن لا حلول قريبة

العاشرة إلا ربع صباحا، مضى على جوعي الليل كله، لا أدري هل غفوت! أم أغمي علي! كل ما أذكره استفاقتي على تتابع نفس صور الأمس، وعلى نفس صوت صافرة الإنذار، والتي ربما تكون سارينة شاحنة تمر بالقرب من الحي، لا أذكر، أيضا، غير اللون الأزرق في الصور، ولم أحدد هل الألوان المختلطة به في لقطات من النيجاتيف المطول، أكانت بالأخضر أم الأسود! المدهش أن الجوع ومشاعره القاسية خفت ضغطها؛ صرت مستسلما لخلو البيت من الطعام، الأنكى أن لا أموال في حافظة النقود قد تعطي أملا في إنقاذ الوضع من كارثيته؛ فالجوع كارثة نفقد معها الحرية، الآدمية أو نتحول كليا إلى مفترسين نهاية الأمر، غير أن لا مفترسات قريبة، أيضا، يمكن أن أمارس عليها حيوانية قد أصل لها مع نوبة جوع قادمة

مع اقتراب المغيب، ضربتني موجة مستعرضة، كهربائية، كتخلخلات في المعدة وانضغاطات فوق رأسي، لم أشعر إلا وقدماي تقوداني إلى خارج البيت، لم أنتبه، إضافة إلى ذلك، خروجي بلا ملابس تقريبا، أنظر في كل الاتجاهات، كمن يبحث عن مفقوداته، كشجرة قطع جذرها وبقيت تقف على الساق، ظلت عيناي تدوران في كل الزوايا، تدققان النظر في المجهول، لا أصوات قريبة، لا تغيرات طرأت على الحي منذ الأسبوعين الماضيين، كل المشاهد على حالها بنفس الرتابة المعتادة، المكرورة، المملة والمعهودة. للحظة تذكرت بيت يفصلني عنه بيتين، بناء قديم، على ما أعرف، بناه آل الدوري في العشرينيات من القرن الماضي، ملحق به مزرعة للدواجن والماشية، أقيم على أنقاض آخر أقدم لآبائهم، من حجار بيضاء التحمت بجص أغمق قليلا، ككل البنايات في الحي أصابته بعض من دانات المدافع القليلة التي دفعت أهل الحي للرحيل

أفكر بالرفقة، بتتابع مشاهد قديمة، حديثة، مشاهد تدخل بينها الصور الملونة بالأزرق، كفواصل، وقد اختفت المختلطة بالأخضر والأسود، لم تختف تماما، ظلت خلفية تبهت مع بروز اللون الأزرق وتصدره المشهد، فواصل لمشاهد حية مع أهل المنطقة، الرفقة، الخالات يصدح صوتهن كإيقاع داخلي (متسارع يحرك زمنية المشهد) للصورة المتحركة في المخيلة، كفيلم تسجيلي؛ فجأة قفزت إلى رأسي، كذاكرة حية، صورة الدجاجات المقأقئة في منزل آل الدوري؛ وكمستلب، تحركت قدماي نحو البيت، خطوت قافزا لمرة واحدة من فوق سور جانبي قصير، تهدم جزء منه، بلحظة واحدة كنت بين الدجاجات، أفتش بين النافقات عن بيضة، عن فرخ قد يكون على قيد الحياة. في زاوية داخل عشة، ثلاث دجاجات، نحيلات، هزلت أقدامهن، ترتعشن، ويبدو أنها حافظت بشكل ما على قليل من الحب في الصحون، وماء مغبر في المساقي؛ أهشها من مكانها، في اللحظة نفسها، تمر على رأسي الصور الزرقاء، الخضراء والسوداء، تغيب كل المشاهد، الأفكار؛ تطفو صورة واحدة تغمر المشهد، دجاجة منتوفة الريش تسبح في مرقة صفراء فوق موقد الغاز؛ غير أن خمس بيضات شهيات كافية لسد الجوع، وجدتها في زاوية داخل العشة المنزوية في الحظيرة

فاصل ثان؛

مشهد (i)

ابنة الجيران تقف في الشرفة، تملأ الكادر بأكمله، تتلاشى منه أية تفاصيل، حتى الإطار الخشبي المذهب القديم اختفى باحتلالها كامل الإطار العام للكادر المصور في ذهني؛ فجأة تختفي ابنة الجيران، الشرفة والإطار، تتبدل الصورة إلى؛ أبي يصرخ في إخوتي وأنا في الزاوية. من حين لآخر، أتابع البيضات تتحرك داخل الماء، يغلي فوق الموقد، تتصاعد فقاعات الماء، معها تتصاعد رغوة بيضاء؛ فربما قد انشق قشر بيضة من الخمس.

مشهد (ii)

أخي مروان، صورته في إطار كبير، بحجم أقرب إلى الطبيعي، خلفيته من القطيفة الخضراء، وعلى جانب الصورة يمتد شريط أسود يحتل أعلى يسار رأس مروان، الإطار بجانب آخر أصغر كثيرا لصورة متلاشية تبدو فيها أمي بعقد الشباب، في مواجهة فتحة المطبخ، حيث عند استدارة وجهي عن الصورة أكون في مقابل البراد، تماما، حيث تقبع بجانبه خزنة الطعام منذ سنوات، ربما قبل أن يولد مروان؛ مروان وأميمة، أخذتهما الحرب، تعرفنا على جثة أميمة، غير أن مروان ظل جثمانه مفقود، فبقى في ذهن أبي كغائب لن يعود، أميمة أصغرنا ويتوسطنا مروان غير أنها ابنة موت؛ كانوا يقولون عنها في الحي بأسى وقت كنا أطفالا: ولدت لتموت مبكرا؛ تعرضت للموت أربعة مرات فيما مضى؛ كلما ترددت بين المطبخ وغرفة الجلوس، أرى صورة مروان في المواجهة، تتصدر الحائط الكبير، طارحة سؤالا قد يبدو سخيفا، مكرورا وكليشيه: لماذا لا نضع صورة أميمة هي الأخرى، رغم تأكد موتها!

مشهد (iii)

صورتي المشوهة كسارق، يقفز من فوق سور بيت يخلو من ساكنيه، سور بيت آل الدوري القصير لا تفارق عيناي، أبدا، قدم تخطو بثقة وراء أخرى ويداي ترتعشان، مسندتان على الحجار المهدمة، صورة لص، إن رآها غيري، أو شاهدتها في ساعة عادية، نعم عادية؛ أعدت التفكير في الأمر بصورة مغايرة باعتبار أن الفعل عادي، عادي وله ما يبرره

مشهد (iv)

صوت الدجاجات الهزيلة، المرتعبة، أيضا، لا يفارق أذناي؛ بضعفها كانت تقأقئ كما لو أنها مأخوذة للذبح؛ كما لو أنها تعي ما يدور حولها، كما لو أنها فهمت لصوصيتي، كما لو أرادت التحول إلى كلب مدرب يهاجم، يقتص من السارق، صورتها وأنا أهشها منتزعا البيضات من أسفلها، يتردد صوتها بقوة، يعلو، يستحوذ رأسي وأنا أشاهد احتراق كلس البيض الأحمر وقد صار إلى لونه الأسود، يحيلني الأسود (في عملية ذهان غريبة) إلى اللوحات التي كلما استفقت أجدها تحتل خلفية كل حلم، مشهد كذكرى، أو حاضر يحدث

مشهد (v)

الدموع تساقط من عيني، أقشر الكلس المتفحم، يظهر الزلال الأبيض المتماسك بلونه المائل إلى الحمرة من قسوة الغليان في القدر، مشاهد كصور ثابته تتابع في الأثناء، الدجاجات، رعبهن، السور، وقوفي أمام المنزل بلا ملابس تقريبا، هزياني مترددا بين البراد وخزنة الطعام، الصور الزرقاء والخضراء. صوت صافرة الإنذار الذي ربما يكون لسارينة شاحنة، أبي يرنو صوته بالقرب من الباب، أصوات المهاجرين، وجثة أميمة ممدة في عباءتها

مشهد (vi)

أراني فيما يشبه الحلم، أسرق خمس بيضات من أسفل ثلاثة دجاجات، كن ثلاثة في الحلم، لكن لا تأكيد على أنهن بهذا التكوين المميز للدواجن، بثلاثة قوائم رفيعة من النهاية ولهن أوراك ضخمة وبلا أثداء، كان مكانها فيما يشبه شعر الأسد الأصفر الكثيف؛ أسرق البيضات وأهرول، أهرول في صحراء لا تشبه، أيضا، الصحراوات، بل كانت رمال سوداء ناعمة تنتشر فيها الخضرة، أسرق الييضات ولا أصل لمكان؛ كنت جائعا وأنا أهرول فيما يشبه الصحراء داخل ما يشبه الحلم، جائع ولا سبيل للشبع وفي يدي البيض الذي ربما ليس لدجاجات

مشهد (vii)

تأكدت من صوت الشاحنة الرمادية، تمر يوميا وأصحو عليه، متصورا أنه صوت صافرة إنذار؛ شاحنة رمادية بأربع وعشرين عجلة، كل اثنتين مزدوجتين، تمر بالقرب من البيت، أسمع صوت سارينتها بوضوح من المطبخ؛ يعني ذلك أنها تمر في نفس الموعد صباحا من شارع خلفي، شارع يفصلني عن بيت آل الدوري، تأكدت من ذلك في أحد الصباحات عندما سمعت الصوت، هرولت خارجا؛ الفضول دفعني لأنهي واحدة من مآسي تصوراتي اليومية

الصوت يا له من مأساة كبرى عشتها على مدار عمري كله؛ صوت مذيعة نشرة الأخبار الآلي عند السادسة صباحا، سارينة باص المدرسة، معلم التربية الدينية والقومية وهو يعيد ترتيل التعاليم السماوية الحميدة ومحظورات السلطة الأبوية، أبي يصرخ في الجميع، عويل النساء يوم رحلت أمي، صافرات الإنذار، صوت داخلي يقتلني يوميا، صوت الضمير؛ تأنيب يعلو صوته صباح مساء، توبيخ الأصدقاء الدائم على عدم انخراطي في مسامراتهم، الفتيات اللائي غررت بهن، قبلتهن، أو ناكحتهن لا فرق، عندما يثرثرن عن ضرورة الزواج بهن

يحدثني صوت كأنه يأتي قريبا من أسفل التخت أو من خزنة الملابس: يا لص! سرقت البيضات التي لجيرانك، استأمنوك عليها، كان عليك أن تنتظر مائدة السماء؛ انفعلت عليه بصراخ، وبخته، حدثته عن “جوع الجوعى”، فقر ألم بالحي، عن الحرب، تسلط الطغاة القساة، وهروبه

مشهد (viii)

تزايدت وتيرة الإخلاء نتيجة الحصار في الأيام الأخيرة؛ سيطرت جماعات مسلحة على أجزاء واسعة من الحسكة، فتحوا النار على كل من قابلهم في كوباني، عامودا ودرعا. على صوت مذيعي الأخبار المحايد، كنت أعاود قراءة ما كتبته من رواية “باص أزرق سريع، يبتلع المدينة”، محاولا السيطرة على نوبة جوع جديدة تضربني، كنت مترددا في استخدام وصف الباص بالأزرق فيما قبل السريع أم يليه، وهل كان حقا أزرقا؛ كي آخذ عين القارئ للون محايد وأتركه في حيرته عن درجة لون الباص

في حين شنت قوات نظامية هجوما مضادا لمحاولات سيطرة المسلحين على شمال الشرق، فتحوا النار، أيضا، على كل من قابلهم، سواء في الشوارع الداخلية أو في المناطق المهجورة والتلال؛ واجه حينا نفس المصير منذ مدة، فهجره ساكنوه؛ كان لمتابعة الأخبار المتوالية أثره في صناعة المزاج السيء، خلال ساعات قليلة يصادف فيها عودة سريان الكهرباء.

عشت صراعا نفسيا مرهقا بعد سطوي على بيت آل الدوري وسرقة بيض الدجاجات الثلاث. البيض المتفحم، أكلته على مضض، وأخذت قراري بعدم معاودة الأمر ثانية؛ كلما قرأت فقرة من رواية “باص أزرق”، يشوش تركيزي صوت مذيع يحاور محللا عن الأوضاع المأساوية للحرب، كنت أصرخ بملء فمي: لاااا، لم أهرب، أنا هنا أواجه أيها الأوغاد، وأبصق في مواجهة المذيع ومحاوره، يغلبني الجوع، أفكر من جديد في طريقة للشبع، لملء معدتي من جديد.

مشهد (ix)

كنت أقرأ في الرواية، رواية “باص أزرق سريع، يبتلع المدينة”، رواية كتبتها في السنوات الهادئة قبل اندلاع المواجهات مع النظام في الشوارع، تقريبا، انتهيت منها منتصف العام 2009، كان كل شيء على ما يرام وقتها، كل الأيام تتشابه؛ اخترت -لسريان الوقت بأريحيته (على ما يبدو)- اللون الأزرق، تعبيرا عن حيادية تحيط الواقع المخدرة تفاصيله، كنت أقرأ، على أية حال، حتى وصلت للفصل الرابع. انتبهت للراوي العليم يحكي عن ثائر في فقرة استشرافية (ثائر يؤدي دور بطل الرواية، دون أن يدري، وهو صديق قديم من فترة التمهيدي) عن الجوع فيما الحرب مشتعلة، وكان عليه بعد أن سرق خزين بيت مجاور وروع ساكنيه، أن يعاود السرقة من جديد، ليشبع جوعه، موفرا المال لشراء ذخيرة سلاحه المعد لحماية الحي.

فاصل ثالث؛

كاميرا (i)

أكملت عامي الرابع عشر، كطفل بريء، فقد أمه منذ أشهر قليلة، كان فوداي مازالا يخطان طوليا لما يحاذي أذني، يشقان طريقهما ليصلا لنتف شعر، نبتت لتغطي شامة الحسن أسفل ذقني، أجلس على أريكة غطاها والدي منذ مدة قصيرة بفرش داكن سميك، منقوش بأشكال هندسية منتظمة، لا أذكر لونه بالتحديد، تتدلى في الخلفية بانعواج صورة زفاف أبي وأمي، نظرتي المشتتة كيتيم فقد مدللته، تتلاشى مع قوة فلاش كاميرا يستخدمها مروان، إضافة لابتلاع الأريكة بألوانها ونقوشها لجسدي الضئيل بملابسه الزرقاء المحايدة، كان لصورة الزفاف أن تتصدر المشهد؛ مشهد يؤرخ لإتمامي العام الرابع عشر ولبداية شيطنة المراهقة، مراهقة لم تبدأ حقيقة؛ فقد تأثرت برحيل أمي منذ أشهر قليلة، فقدان أدى إلى انزوائي لسنوات طويلة، لم يعيدني للحياة بكامل إيماني، غير هتاف انطلق بصورة عجيبة، مفاجأة في شوارع درعا، هتاف: يلعن روحك يا بشار، هتاف آلاف من الشباب والأطفال بصوت خافت.

كلما توقفت عند صورة في ألبوم من مذكرات الأسرة، أو ألبومات أبي شابا، أمي وأسرتها، صور أبعد لأجدادي، صور تركها لي بعض الأصدقاء، تؤرخ لأيام خلت في حياتهم، أو ما جمعني بهم في المرات القليلة التي صحبتهم فيها لنزهة مدرسية، أو رحلتي الوحيدة إلى إيطاليا مع رفقة الجامعة، أراني معهم داخل فيلم مصور يدور أمامي، كأن الحائط الفارغ الوحيد في غرفة الجلوس (الموازي لباب غرفتي وأخي، قديما) شاشة عرض بيضاء يفتح عليها شعاع عرض أزرق من داخل إنسان العين، إنسان العين الذي أصبح للتو، (بروچيكتور) صناعة صينية رديئة علق بعدسته غبار، جعله يعيد عرض المشهد مرة بعد مرة، فأرى الصورة من الألبوم، ثم يعاد تكرار مشهد يتعلق بتاريخها أمام عيني، كأن الذي يشاهده ليس أنا بكامل عقلي وحواسي. أحد المشاهد قفز على شاشة العرض البيضاء، التي هي الحائط الفارغ الوحيد في غرفة الجلوس؛ الحاج مصطفى المصري يقف وراء طاولة العجين، بوجهه المربوع، أنفه المنتفخ، وبطنه المتدلية لما يصل ركبتيه، وبجلبابه المميز، بأكمامه الفضفاضة، يشمرها لمفصليه، فتراها آخر النهار بلون داكن عن باقي الجلباب من كثرة ما علق بها من زبد وعجين. قفز المشهد فيما أتفحص صورة التقطتها أميمة بتليفونها (Nokia6610)، أول يوم تشتريه، لتجريب إضاءة الشارع النهارية، كنت في انتظار منقوشة السبانخ والزعتر الكبيرة، يعجنها الحاج مصطفى بمهارته المعتادة؛ تعلم صناعتها منذ وصل إلى الحسكة، بداية ثمانينيات القرن الماضي، صادق كل رجال وأطفال الحي والأحياء المجاورة، تميز بكرمه البالغ، إذ عادلت كل عجائنه اثنتين مما يخبزه غيره من الشوام والأتراك في المدينة، استفقت من المشهد على دموع تنساب غزيرة بللت لحيتي وصدري، لا أدري هل يكون الانفعال للمشهد سببها! أم أن جوع يسيطر منذ أيام ثلاثة ولا أشفى من أثره؛ مجرد التفكير في الجوع، كخاطرة، أوقف انغماسي في ألبومات الصور وربما هو ما دفعني للحلم بمشهد الحاج مصطفى المصري وهو ينتصب خلف طاولة العجين، وتأثري برائحة الخميرة وكأن منقوشة السبانخ والزعتر خارجة لتوها من الفرن تتصاعد أبخرة إنضاجها لتلهب أنفي

صار لابد أن أقرر؛ أي البيوت يمكن أن أدخلها، أي المتاجر يمكن فتحها، بيت أبو علي أيوب، بيت مرعي الزوز، بيت المال؛ هل ترك العامل عليه النذور وصندوق التبرعات، بيت فرج الشيخ سعد، أو متجر أخته سكينة، متجر المجوهرات والفضيات، كلها فرص مواتية على ما أظن، كحلول دائمة لمشكلة الجوع مع الحصار.

أقف أمام المرآة، عاريا، أتحسس نتوء بطني الصغير؛ اختفى تماما، كأن لم يكن، كأني ولدت بدونه، رغم شهرتي ببطني العريض ضمن هيكل ضعيف، كان بطني كسبة يتخذها رفقتي وسيلة للتندر والقهقهة، أقف متفاجئا من الحال الذي صرت عليه، جحظت عيناي وتعمق تجويفهما، ترقوتاي نفرتا بشدة، كغصنين جافين لشجرة صفصاف، صرت هيكلا لما كنت عليه، تعطرت بعد استحمام بماء دون غسول مطهر، أعيد هندام ملابسي مرارا، وأنظر في المرآة لأهيىء شعري في تصفيفته المعهودة، أنظر بخيلاء، كدنجوان ينتظر فتاته؛ لا ينقطع التفكير في الجوع، أحاول جاهدا طرد مشاعره المسيطرة دون جدوى، وكأن عقلي تم هندسته لثلاثة مستطيلات متساوية المساحة، يتوسطهم المنغمس في أفكار لذة الطعام، وعن جنبيه، مستطيلان بنفس حجمه احدهما يفكر في الهيكل الواضح داخل المرآة لرجل يشبه (إيلان عبد البر إبراهيم)، والثاني يرتبك في أفكار تتردد بين فعلتي؛ إذ ما هي سرقة، أخذ أو منحة! أو أنها عطية وكنز سماوي ليبقيني حيا، هنا، في هذا الفراغ غير المعلوم مدته! فراغ سكن العالم في شمال الشرق مز بلادي، البلاد المختطفة في غفلة من أهلها

بعد أن أفلت قفل المزلاج الحديدي لباب متجر سكينة الشيخ سعد للفضيات والمجوهرات، الباب الفولاذي الصنع انفتح بسكب قليل من قطرات مركزة من حامض الكبريتيك، كان يستخدمه أبي لتنظيف مواسير الصرف الصحي الصدئة، الباب الملون بالأزرق والأخضر والأسود، الباب الذي مررت عليه آلاف المرات، رافعا يدي تحية للست سكينة أو لأخيها فرج، فرج الأبيض كما اطلق عليه قرناؤه؛ لعلة بهاق اجتاح جلده صغيرا من رأسه منتشرا لباقي أطرافه، فرج الأبيض كان لديه هو الآخر متجر مجوهرات غير نشاطه لبيع الحلوى العربية والمثلجات إثر أزمة مالية؛ كنت اتحاشى الشراء منه؛ لخوف ترسب داخلي بسبب علته المرئية؛ إلا في الأيام التي أرى فيها ابنته هنادي تقف وراء پاترينة الحلوى، تتقصد إغواء المراهقين ليمروا على متجر أبيها، لترويج بضاعة كادت أن تفسد؛ في أيام الكساد المريرة، كانت تظهر هنادي بديلا عن أبيها؛ تروج عملية البيع كثيرا؛ لكن سرعان ما يعود فرج الأبيض ليقف من جديد في الوسط من متجره، فتجد الفراغ حليفه، وهكذا على مدار عملهم قبل إغلاق المتجر نهائيا وبيعه؛ تزوجت هنادي واضطر أبوها لتصفية تجارته، وتفرغ لمناكفة أخته في متجرها للمجوهرات. أستعيد هذا التاريخ بتفاصيله، كأنه تم قص مشاهده من فيلم الحياة ودمجها مخرج سيء الرؤية لتعرض متتالية دون لعب فني على تزمين الأحداث، أثناء ذهولي من خلو متجر مجوهرات سكينة الشيخ سعد، الرفوف جميعها فارغ يعلوها الغبار، ويتملكني سؤالان؛ لماذا أغلقت سكينة باب متجرها الفولاذي بالأقفال، وماذا كنت سأفعل لو وجدته ممتلئاً! هل كنت فعلا سأسرق، ولو سرقت، ما حاجتي للمجوهرات في ظل هذا الحال، في ظل هذا الفراغ، في ظل خلو المدينة من سكانها، ما قيمة المعدن النفيس دون بضاعة أقايضه بها! وتأصل لدي، في العمق من روحي، وصمة السارق، صارت تطاردني أثناء خروجي من المتجر، وبكل برود كنت أقوم بالفعل نفسه مع متجر وآخر من متاجر السوق، كلها فارغة، كلها فضضت أقفالها بنفس السائل المركز الذي يستخدمه أبي في تنظيف ماسورات الصرف الصحي الصدئة. تناسيت الجوع وأرهقني سؤال السارق؛ أأنا، فعلا، السارق، ذاك اللص الحقير الذي يقتحم المتاجر! أم من أفرغوا محالهم من البضائع!

أثناء تجوالي في الحي، من السوق إلى شوارع داخلية، كنت أحاول اكتشاف أي كائن حي يمكن التهامه؛ من نوعية الطيور أو الحشرات، زواحف، حيوانات أليفة، أو حتى مفترسة، ضلت طريقها للمدينة من الضيع القريبة أو الأحراش. عاد رأسي لصوابه وتذكرت بيت آل الدوري، حظيرة الدواجن، البيض، الدجاجات الهزيلة، المرتعشة داخل العشة المنزوية، كنت كآلة تسير بالأمر، نحو بيت آل الدوري، البيت الحجري الأبيض، الملصوقة حجاره، التي من كلس، بجص من لون أغمق قليلا، البيت المهدوم جزء من سوره بفعل دانة في الأيام الأولى من القصف، القصف الذي أخلى المدينة. الصدمة كادت أن تخرسني، لا دجاجة واحدة على قيد الحياة، كلهن نافقات، واحدة، فقط، من تلك الهزيلات، مازالت تنبض وتنتفض على ظهرها بهزة الموت، انتزعت رأسها من جسدها بحركة واحدة، مسكتها من جناحيها، وكآلة تسير بالأمر تحركت نحو البيت، دخلت غرفة، لا تشبه مطبخ بيتنا، لا يهم! صورة مروان ليست في مقابل البراد، لا يهم! يبدو أنه بيت لأسرة مهاجرة، فتحت شعلة الغاز، وضعت الدجاجة دون تنظيف داخل وعاء عميق متسع وأضفت الماء، ملح متحجر من أثر الرطوبة، أيضا، تركتها تنضج بريشها ودمها. كنت أقف كغريب في مدينة خالية، في منزل لا أعرفه، في موقف لم أعتد عليه، في مواجهة براد، عندما فتحته، وجدته ممتلئاً عن آخره بأصناف من المأكولات الشهية، حليب، علب التونة والسردين والفول، مياه غازية، مقبلات نيئة تنتظر الزيت في المقلاة، خضار معلب ويبدو أنه في حال جيدة، وقفت مذهولا، لا أعرف هل أحمل كل هذا الخير إلى منزلي، أم أبقى معه هنا، ليمر الوقت القاسي دون عناء الحمل وإعادة الترتيب، الدجاجة تنضج ورائحة البصل والبهار المضاف، لاحقا، تخيم على الأجواء.

كاميرا (ii)

قرر منتج أفلام بورنو، أمريكي، أحد الزنوج المهاجرين من الكاريبي، له عدة إسهامات في صناعة مجلات علمية عن فن الأيروتيكا، قرر بعد مشاورات واسعة، إنتاج فيلم عن الحرب، فيلم قصير أو تسجيلي، كان قد زار سوريا في أثناء الحرب للبحث عن بطلات عربيات شقراوات وبضات للتمثيل في أفلامه المعروضة على مواقع إباحية شهيرة؛ تأثره بالوضع كإنسان، دفعه لتغيير وجهة نظره عن العالم والوجود، قرر الاستعانة ببعض أصدقائه لإنتاج فيلما واقعيا عن الأحداث بالتوازي مع بحثه عن فتيات لأفلامه

كاميرا (iii)

تشير الساعة للسادسة صباح يوم التاسع من أيلول (2015)، بعد أربعة سنوات من احتراب توسعت دائرته، بما يعني أن الحرب السورية، بين طرفين أحدهما معارض، قد امتدت لتتخذ صفة العالمية، دون التصريح الواضح بهذا المعنى؛ كان آخر من خرج من حي غويران، أبي ورفيقه الحاج مصطفى المصري، بعد نقاش طويل لخروجي معهم

الساعة الثامنة صباح نفس اليوم، كنت أجلس فوق كرسي بلاستيكي أزرق، انكسرت إحدى قوائمه قليلا، يترنح بجسدي، وأنا أثبت نظري في اتجاه سريان قافلة المهاجرين، المهاجرون الذين كان آخرهم، أبي، ورفيقه. أنعم النظر عل أحدهما قرر العودة

الساعة الخامسة مساء اليوم التاسع من أيلول (2015)، أمسيت أستعيد مشاهد قاسية عن السنوات الماضية، قذيفة أخذت في طريقها نصف كلب وترتكت رأسه يعوي مع قائميه الأماميين، احتراب بين أخوين تمترس كل منهما خلف معتقده، حصار، جوع، مرض، جرحى، وأطفال تنتظر الحليب وتحلم بالمدرسة، فوق نفس الكرسي الأزرق المترنح، أستعيد المشاهد منتظرا عودة أحدهم، قد يكون قرر في منتصف الطريق العودة؛ مع مغيب الشمس تأكد لي، بصورة جلية، أنني أواجه مصير الوحدة، وكان قط وحيد متجولا آخر ما شاهدته حيا هنا

مونتاج؛

نهاية (i)

أسلمني رجال ملثمين، يرفعون راية، زرقاء، لم أتبين ما دونوه عليها، إلى آخرين يقفان على باب قبو، بعده عصبت عيني، وبقيت لأيام لا أعرف عددها في مكان نتن، بارد، لا أذكر فيه غير الرجال الملثمين، والآخرين الواقفان على باب القبو وباص أزرق سريع، رماني منه سائقه على جانب من طريق غير ممهد.

نهاية (ii)

كنت في قبو، وكانت رائحة رطوبة البلاط البارد مقززة، وكان حارس القبو ودودا، وكنت أستأذنه في الخروج للتريض خلال غفلة من سيده، السيد الذي لم أختبره، السيد الذي اعتقل حريتي، السيد الذي عرف عن سرقاتي المتكررة للمنازل والمتاجر، وكان الحارس يوافق على ضمانته، وكنت أتريض بالمشي لربع ساعة يوميا، في رواق بفتحة واحدة تفضي للخارج، لكته لا يطول لأكثر من مترين، أروح وأجيء فيه، حتى رأيت، أخيرا، النور خارج النفق.

نهاية (iii)

رجال ضخام، طوال، بأفكاك بلا أسنان، يخرج الكلام من أفواههم باردا بلا علامات وبحروف ناقصة، ملثمون، يرفعون راية زرقاء تشبه لثامهم، لم أستبن ما دون عليها، أسلموني إلى رجلين أضخم كثيرا، عمالقة، بأفكاك بلا أسنان، أيضا، يقفان على باب قبو، نتن، بارد، لا تزوره الشمس، أبدا، لم أره بشكل واضح لأتبين وصفه، عصبت عيني، بقيت فيه مدة، بت لا أعد أيامها، طالت، صارت كيوم واحد ممتد، كنت أعد الأيام بعدد وجبات الطعام، وجبة واحدة يوميا، في نفس الوقت، من نفس النوع وبلا ملح أو خضروات، لحم نصف مطهي، دائما، بنفس درجة التسوية، بعدها، كنت قد مللت، لم أحتمل، شنقت نفسي؛ لم أفلح.

Leave a comment