التجربة الإبداعيّة المرتبطة بمجتمعات الحشيش السريّة / الشاعرة سمر لاشين

By

التجربة الإبداعيّة المرتبطة بمجتمعات الحشيش السريّة

أدباء القرن التاسع عشر أنموذجاً

بقلم الشاعرة المصرية: سمر لاشين

على الجميعِ أن يستيقظَ من نومتهِ الأبديّةِ الهادئةِ. حانَ وقتُ الفوضى. لا مكان لترتيبِ الأحداثِ والتواريخِ هنا. كلٌ يجيء ليروي حكايتهُ الأولى مع الكيفِ. سنجتمعُ جميعاً في نادي الحشاشين بباريس “الأول من إبريل لعام 1851 م “، كل التواريخ قبله أو بعده؛ ستتوقف. ما سبقهُ سيلحقُ بهِ وما تلاهُ سيرجعُ إليهِ، عبرَ رحلةٍ وتجربةٍ إبداعيّةٍ ترتكزُ على المنطقةِ التخيليّةِ التي يشتغلُ داخلها المخدرُ. 

الجميع أحياءٌ .. الجميع يجلسونَ في بهوِ نادي الحشاشينَ .. كلٌّ يحكي لنا قصتهِ. .

لكلٍّ منّا فردوسهُ الخَاصّ  

في أواخر مارس من عام 1851 م؛ كنتُ على موعدٍ مع إيميلي ديكنسون-( 1830-1886)- في أمهرستْ بولايةِ ماساشوسيتسْ – في الولاياتِ المتحدةِ -؛ لأخبرها بشأنِ اجتماعِ نادي الحشاشينَ بباريس، والتي استقبلتني في حديقةِ منزلها، حيثُ كانت تقوم بزراعة بعض الزهورِ في حديقتها الصغيرةِ -لا أعلم لماذا تَذكرتُ في تلكَ اللحظةِ حديقة شكسبير الممتلئةٌ بنباتِ القنبِ المخدر؛ الذي يملأ رئة كلّ من يمرّ بجانبها، والذي يُعتقد أنه يساعده على الإبداعِ في كتابةِ مسرحياته.

 كان الريفُ هادئًا مثلها.. شهي كخطيئةٍ لم تُرتكب بعد. صوت إيميلي المنخفض وطريقتها في التقاطِ الأفكارِ مني بطريقةٍ بارعةٍ؛ جعلتني أنسى أمر اجتماع نادي الحشاشين، لأسألها لماذا اختارت عزلتها هذهِ ؟ وهل الاعتياد على هذا الهدوءِ الباردِ كالموتِ منحها شعوراً بالاكتفاءِ من كلّ شيءٍ ؟ أجابت بنبرتها المعتادة الهادئةِ كنسيمِ الحقلِ : لكلا منا فردوسهُ الخاصّ يا سمر، هذا فضائيَ الذي أخلقُ فيهِ أحلامي، هذهِ العزلةِ تغذي روحي بالشِّعرِ، تجعلني أكتبُ قصيدةٌ تلو قصيدةٍ دونَ رغبةٍ في التوقفِ أو رضا بالاكتفاءِ .. هنا في هذا الفضاءِ الصامتِ الضاجْ بالوحدةِ لأَشياء ولأشخاصِ لا أعرفهم؛ لكني أعرف الشِّعر الذي يكونهم جميعا.. 

 

قلتُ لها: نعم ، بكلّ تأكيد لكلّ منا فردوسهُ .. في باريس مثلا في نادي الحشاشينَ بالتحديدِ – الذي هوَ سببُ مجيئي هنا – حيثُ يوجدُ متسكعي العالمِ المثقفِ، الذينَ اتخذوا من الحشيشِ أداةً شيطانيّةً مثاليّةً؛ تجعلُ المبدعينَ يقتربونَ شيئاً فشيئاً من الكمالِ الشَّيطانيّ، الذي يجعلُ الهاويةَ مضيئةٌ وجذابةٌ، والأفكار صافيّةٌ وواضحةٌ على حقيقتها .. هنا تبدأ الأشياءُ وتنتهي، لا مكان للتفكيرِ في الدمارِ النَّفسيّ المترتبةِ عن هذه التجربةِ اللذيذةِ والخطرةِ .. لأَنَّ هنا مبدعاً يغزو ذهنه جيشٌ من الأفكارِ الوضاءةِ العبقريّةِ تجعلهُ يعتقد بألوهيتهِ الخاصةِ وقدرتهِ على امتلاكِ العالم والأشياء. 

سمعت عن هذا سمر، أنا أيضاً أخلقُ فردوسي الخاصّ أصنعهُ وأعتقهُ من وحدتي، من انعزاليتي التّامة. سأقولُ لكِ شيئاً قدْ تضحكينَ عليهِ: “بالأمسِ الريح طرقتْ البابَ مثل رجلٍ متعبٍ، وأنا كمضيفة أجبت بجرأةٍ : ادخل. فدخلَ بيتي عندها ضيف عجول بلا أقدام …. زارني، ساكنا، متنقلاً، ومن ثمَّ كرجلٍ خجولٍ .. طرق مرةٍ أخرى. لقد كانت زوبعةٌ .. وأصبحت وحيدة، مرةٌ أخرى” . 

هل تستوعبين ذلك ؟.. كلّ شيء هنا قابلٍ للخلقِ والاصطناعِ، والمبيتُ آخر الليلِ، في قصيدةٍ .. أنا صانعة التُحف الصغيرة.. 

لقد كتبت عن الخمرِ ولم أتذوقه، كتبتهُ من وحي خياليّ .. أنا صنعتهُ بيدي:

“أتذوق خمراً؛ لم يخمر قطٌّ. من أباريقَ مرصعةٍ باللؤلؤِ. ليست كلّ ثمارِ فرانكفورت، تنتج كحولاً كهذا. أنا عاشقة الهواء، وثمة الندى. أدورُ عبر ليلي الصيف النهائيّةِ. في حاناتٍ من زرقة مذابة. عندما يخرج السادة النحلة المخمورة، خارج بابِ الخشبِ. عندما ترفض الفراشاتُ جرعاتها سوفَ أشرب أكثر؛ حتى  يؤرجحْ الملائكة قبعاتهم المغطاةَ بالثلج. ويهرع القديسون إلى النوافذ؛ ليروا إلى المدمنةِ الصغيرةِ، قادحة من مانزانيللا “

أنا أريدُ أن أكونَ بكاملِ وعيِ وأنا أمارسُ الشِّعرُ؛ إنها لذةٌ لا تقلّ عن أَيّ لذةٍ حميميّةٍ أخرى . 

عزيزتي إيميلي: أنا ذاهبة لاجتماعِ نادي الحشاشين ألنْ تجيئي معي ؟ سيكون هناكَ فرصة ليتعرفَ الجميعُ على فردوسكَ ربما فعلوا شيئا مشابها واستبدلوا بالحشيش والأفيون فراديس أخرى ذاتيّة نابعةً من داخلهم. 

بابتسامةٍ ونفس هادئٍ ترد: لا

Baudelaire hash selfportrait

.

إذا أردتَ أنْ تبلغَ الجنة بضربةٍ واحدةٍ اذهبْ إلى نادي الحشاشينَ واجلسْ بجانبِ شارل بُودلِير  

دائما ما تنزلقُ قدميَّ في حفرِ الشيطانِ؛ تلكَ الحفرِ الجذّابةِ المنتشرةِ بطولِ طريقي . في كلّ مرةٍ وأنا على حافتها، وقبلَ السقوطِ مباشرةٍ؛ أستعيذ من الشيطان، وأضمُ بقوةٍ صورةِ اللهِ في قلبي. فانزلق بقلبٍ مطمئنٍ .. 

عقب كلّ سقوطٍ وقبل الارتطامِ بمقدارِ خيبةٍ ؛ تنتشلني يدُ الله. 

أريدُ الآن أنْ أشربَ سيجارة حشيش – حفرة جديدة نصبها الشيطانُ لي – قررت هذا فجأة بعد أنْ قرأت كتاب  شارل بودلير “الفراديس المصطنعة” .. نعم أريدُ أن أدخن سيجارة حشيش لأجل ما كتبه بودلير عنه .. أدخنها وحدي، لا شيء معي سوى موسيقى الثلاثي جبران وصوت محمود  درويش  في قصيدة انتظرها.

لقد تفوقَ بودلير على الجميع في وصف الحالة الإبداعيّة المصاحبة لنشوةِ الحشيش بشكلٍ علميٍّ وأدبيٍّ؛ ما جعلَ كثيراً من الأدباءِ في عصرهِ، وما تلاهُ، يعتبرونهُ نصاً تأسيسيّاً لا غنى عنهُ، سواء بتقديمِ وصفٍ علميٍّ دقيقٍ أو وصفٍ للحالةِ الإبداعيّةِ وما يكون عليهِ الوعي الإبداعي في ضوءِ استعمالِ هذه الموادِ المخدّرةِ .

الحشيش لم يصبح معروفاً بشكلٍ كبيرٍ في أوروبا إلا في القرنِ التاسعِ عشر، وقد حمل معه سحر الشرق وطقوسه الجماليّة، كجزءٍ منْ الاستشراقِ الذي كانَ رائجاً في ذلكَ الوقتِ – نحن إذن من علمناهم أصول الكيفْ-، قيلَ إن جيوشَ نابليون أحضرت الحشيشَ إلى أوروبا عندما عادت من الحملةِ على مصر في الأعوام ( 1798-1801)، بوصفهِ مادةً طبيّة ذاتَ آثارٍ مهدئةٍ، لكن الأمر تجاوز الطّب ليصبح تجربة جماليّة وثقافيّة؛ استفادة منها المبدعون في أوربا والعالمِ .

وقد اشتهر في باريس أواسط القرنِ التاسعِ عشر ما يعرف ب ” نادي الحشاشين ” الذي أسسهُ الطبيب Jacques – Joseph Moreau de Tours في سنةِ 1844، وقد بدأَ نشاط النادي بين 1844 حتى 1849 م ، في صالون أوتيلِ لوزون، ” المعروف حاليا بفندقِ ” بيمبودان ” في جزيرةِ سانت لويس الواقعة على نهر السين وسط باريس. إذْ كان يجتمعُ الأدباءُ والمفكرونَ الكبارِ في تلك الفترةِ ك ” ألكساندر دوماس الأبِ ” ، و ” شارل بودلير ” و ” بلزاك ” ، و ” يوجين دولكروا “، ليأكلوا فيه الحشيش على هيئةِ معجون، ممزوجاً باللوزِ، ويشربون وراءه القليل من الحساء على وقع رباعي وتريات، في سبيل إنتاجِ عملٍ فنيّ أو أدبيٍّ. 

من هنا راودني سؤال: هل فعلاً هناك حالةٌ إبداعيةٌ خارقةٌ تصاحب المبدع حين يتعاطى مادةً مخدرةً وبخاصة الحشيش؟ 

وقلتُ لنفسي لا بدّ من أنْ تكونَ الإجابةُ على هذا السؤالِ من مبدعين عاشوا التجربة بكاملِ وعيهم وإدراكهم لما يفعلون وقاموا بتوثيقِ ذلك بشكلٍ أدبيٍّ، لأنهم في هذه الحالة  أقدر النّاس على الوصفِ الدقيقِ للحالة التي يكون فيها الإنسان المبدع تحت تأثير المخدر .. بلّ أصدق وأصح من العلم نفسه.

كان عليّ الذهاب لنادي الحشاشين، للتعرف على التجربةِ الإبداعيّةِ لمتعاطي المخدراتِ من خلالِ شهادةٍ حيةٍ لشعراء وكتاب كبار قضوا فترة طويلة في تناول الحشيش والأفيون، وكان لهم قدرةٌ إبداعيّةٌ واعيةٌ ليقدموا تفاصيل تجربتهم بشكلٍ يتسم بالوصف الحقيقي والدقيق للتجربةِ بصيغةٍ علميّةٍ أدبيّةٍ متقنةٍ . 

بالرغمِ من أَنَّ تيوفيل غوتييه كتبَ عن النادي وزيارتهِ له مقالاً بعنوانِ “نادي الحشاشين” عام 1846 ، بعد أنْ زاره للمرةِ الأولى، ووصف هذهِ التجربةِ بالتسمم الثقافيّ ، وأيضاً قيام الطبيب المُختصّ في الاغترابِ الاجتماعيّ جاك جوزيف مورو بنشرِ كتابٍ بعنوان “الحشيش والاغتراب العقليّ” عام 1845 ، تحدث فيه عن زيارته للنادي وتجاربه الشخصيّة مع الحشيش والأفيون وقد وصف تجربته في نادي الحشاشين وتحدث عن الضباب المحيط بالمكان وطبيعة توزع الأماكن . بالإضافة إلى حديثه عن فرقة الحشاشينَ التي كانت تابعةً لحسن الصباح، وطبيعة الطقوس التي كانوا يمارسونها في الجبالِ، مستدعياً بذلكَ التراثِ الشّرقيّ، بوصفهِ أسطورياً، وخصوصاً ما ارتبط بهذه الفرقة من أحاديث وخرافاتٍ، في محاولةٍ لإعادة إحيائها في النادي ..

Baudelaire

كذلكَ الطبيب الفرنسيّ مورودي تور سنة 1845 أصدرَ كتابهُ “الحشيش والجنون”، وهو خلاصة تجربةٍ أليمةٍ شاهدها المؤلف لدى مرضاهُ الكثيرين، إذْ كان مديراً لمستشفى الأمراض العقليّة بباريس، وقد جازف بنفسهِ حين تناوله ليدرك أثره الجسميّ والنفسيّ، وهي مجازفةٌ دفعتهُ إلى شنّ حربٍ عليهِ وضحتْ معالمها في كتابه المشار إليه.

إلا أَنَّ التجربةَ الأَهمّ المرتبطة بالحشيشِ ، هي ما كاتبهُ الشاعرُ الفرنسيّ شارل بودلير(1821-1867)، في كتابهِ “الفراديس المصطنعة”، والذي يعتبر الأشهر في هذا المجالِ ، فتجربةُ بودلير -النثريّة الشّعريّة- المرتبطةِ بالحشيشِ، حرضتْ الكثيرينَ على ارتيادِ النادي وتعاطي المادة المخدّرة.

في أحد شوارعِ الحيّ اللَّاتينيّ بباريس، انتظرت بودلير لِيصحبني معهُ إلى فندقِ لوزون. 

أثناءَ سيري معهُ قالَ : أنتِ لمْ تجربي هذا السحر من قبل. لذا أقولُ لكَ ولكلّ الذين لديهم فضول التعرف على ملذاتٍ استثنائيّةٍ: أنْ يعرفوا أنهم لن يجدوا في الحشيشِ أَيّ شيءٍ خارقٍ، أَيّ شيء مطلقا سوى الطبيعة في صيغتها المضاعفة والمفرطة. ولن يستطيع الإنسان تجاوزَ حدودِ طبيعتهِ الماديّة والمعنويّة، ولن يكون الحشيشُ سوى مرآةٍ كبيرةٍ صافيّة، يرى فيها نفسه.

قلتُ: كلي شغف لتجربة ذلك.. والانغماسُ فيهِ ولو ليومٍ واحدٍ. أعرفُ أناساً يمكنهم أنْ يبيعوا أنفسهم مقابل لحظة سعادةٍ حقيقيّة؛ يشعرون فيها أنهم أحياءٌ، حتى لو كلفهم الأمرُ بعد ذلكَ تكملة حياتهم في القبورِ .

ضحك وقال: أكيد فهناكَ فضولٌ معرفيٌّ طفوليّ، أشبه بذاكَ الذي يمتلكهُ أولئكَ الذين لا يغادرون مطلقاً ركنَ مدفأتهم، ويجدونَ أنفسهم فجأة أمام رجلٍ عائدٍ من بلادٍ بعيدةٍ وغيرِ معروفة. يتخيلون نشوةُ الحشيش، كما لو كانت بلاداً رائعةً، ومسرحاً واسعاً من الخدعِ البصريّة.

سببُ كلّ إفراطٍ في استعمالِ هذه الموادّ، أنَّ العقلَ البشرِيّ ممتلئٌ بالأهواءِ بما يكفي ليعيدَ بيعَ نفسهِ إليها في كلّ مرةٍ. طمعاً في الوصولِ إلى لذةٍ لانهائيَّة تمكنهُ في ساعاتٍ قليلةٍ من تشييدِ بيتهِ الطّينيّ أو نقول من بلوغ الجنة بضربةٍ واحدةٍ .

أنا على يقين أنكِ قد تجهزتِ الآن بما يكفي لرحلةٍ طويلةٍ ومميزةٍ.  دَقّ الجرس، واتخذَ الشراعُ وجهتهُ.. بينما لديكِ مقارنة ببقيةِ المسافرينَ امتيازِ أنكِ لا تعرفين إلى أينَ تذهبين. لقد أردت ذلك.. لقد أردت الموت..

لا بدّ من هبوط لذيذ في الجحيم، كما يقولُ هويسمان

في صالون فندقِ لوزون، الجميع يرتدي ثياباً عربيّةً، ويجلسون في حلقة دائريّة على أرضيّة مفروشة بما يشبهُ قعدة عربيّة، وفي المنتصفِ هناكَ موقدٌ تجهزُ عليهِ القهوةُ وبعض الصواني العربيّة عليها حلوى مخلوطةٌ معَ الحشيشِ. كان هذا اقتراح غوتييه؛ لأنه أراد أن يشحذ سحرَ الشرقِ كله في هذه اللَّمَّة.

لذا، ذهبتُ أنا وبودلير بثيابٍ عربيّةٍ، وبعد أنْ جلسنا، وجدتُ الجميع مٌتسلّطن على صوت سيد درويش -(1892- 1923)- الجالس بجانب شكسبير وهو يعزف على عوده أغنية الحشاشين “التُحفجيّة”. بعضهم يحركُ يده بشكلٍ ينسجم مع لحن الأغنيّة ويتمايل يميناً ويساراً .. والبعض يردد “هأ هأ هأ يامرحب” بعد أن ينتهي من غناء المقطع: 

ياما شاء الله ع التحفجيّة أهل اللطافة والمفهوميّة

اجعلها ليلة مملكة يا كريم

دا الكيف مزاجه إذا تسلطن أخوك ساعتها يحن شو شو شوقا

الى حشيش بيتي نيتي نيشي اسأل مجرب زي حالاتي

حشاش إرا إراري يسفخ يوماتي

خمسين جراية ستين سبعين

هأ هأ هأ يامرحب

كان هناك شخصٌ ضئيلُ الحجمِ معتل الصحةِ، يجلس قريباً منا، لكنه يبدو في عالمٍ بعيدٍ جداً، قلتُ لبودلير من هذا الشخص؟ 

قال: هذا توماس دي كوينسي (1785-1859م) روائيّ وناقد إنجليزيّ ولدَ في مانشستر، وقد انطبع أدبهُ بتأثيراتٍ فلسفيّةٍ وحياتيّة تعبرُ عن تجربةٍ خاصةٍ، تمزجُ ما بينَ الواقعِ والخيالِ والشاعريّةِ والعمقِ، والمعاناةُ الشخصيّة المبرحة التي عاشها، ويرجع لكوينسي السبب في ارتباطِ تجربةِ بعض المبدعينَ بالحشيشِ والأفيونِ، وذلك مع انتشارِ كتابهِ “اعترافات آكل أفيون إنجليزي”، التي ترجمت إلى الفرنسيّة عام 1828م على يد الفريد دي موسيه. ما فتح أعين المثقفين على تجربة هذه الممنوعات، بوصفها تختزن طاقةً جماليّةً وإبداعيّةً. وقد تأثرتُ أنا شخصياً بهِ وخصصت لهُ جزءاً كبيراً في كتاب “الفراديس المصطنعة”.

رد كوينسي- يبدو أنه كان يرمي أذنه معنا-: لم ألجأْ إليه بحثاً عن اللذةِ ولكنَ هرباً من الألم، فقد كنتُ أعاني آلاماً شديدةً في الوجه؛ هذه الآلام نفسها قد دفعت غيري إلى الانتحار، وكنتُ شجاعا حين وصفت نفسي عبداً للأفيونِ وخاضعاً لهُ كسلطةٍ وحيدةٍ في حياتي.. غيري لا يفعل .

رَدّ بودلِير: يا صديقي، أرى أنكَ أردت أنْ تبررَ لنفسكَ وللناسِ عكوفكَ على هذا الإدمانِ القاتلِ، وسرد الكثير من فوائده التي خلصتك من آلامكَ، لكنكَ لم تنتبه لهذا الشكل السّاحر في الكتابةِ الذي يقفُ في صفّ المُخدِّر وبشكلٍ طغى على ما أردتَ أنْ توضحهُ في دورِ المُخدِّر في إنهاكِ جسمكَ، والمعاناةَ التي سببها لكَ فيما بعد من القلقِ العميقِ المتواصل، والحزنُ الغارقُ في الكآبةِ.

وهنا بدأ الجميع ينتبه تدريجياً إلى النقاش الدائر حول المواد المخدرة..

 أرادَ تيوفيل غوتييه ( 1811 – 1872 ) وهو شاعرٌ فرنسيٌّ وكاتبٌ مسرحيٌّ، ناقدٌ أدبيّ، أنْ يتكلم عن تجربتهِ مع الحشيشِ، بعد أنْ تناول بعض الحلْوى المعجونةِ بالحشيش، قال: سأروي لكم قصتي مع هذا الشيطان السّاحر، قبل أنْ أجربَ الحشيش كتبتُ عن النادي وزيارتي لهُ مقالاً بعنوانِ “نادي الحشاشينَ” عام 1846م تحدثت عن التجربةِ بوصفها “التسممَ الثقافيّ” ففي هذهِ الزيارة كانت أشكالُ من كانوا حوليّ غريبة، عيونهم مفتوحة كأعينِ البوم، وأنوفهم ممتدة كخراطيم الفيلة، وأفواههم مفتوحة كالأجراسِ، أحدهم كانَ ذا لحيةٍ سوداءَ ووجه شاحب، وكان يضحكُ بجنونٍ كأنه يشاهدُ عرضاً خفيّاً، والآخرُ كانَ يعاني ويحاولُ أنْ يجعلَ الكأسَ تقتربُ من شفتيهِ، وهوَ يتلوى بصورةِ مدوخة ليصل للكحول. 

ثمَّ  انقلب الوضع تماماً بعد أن أصبحتُ أنا أحد هذه الأشكال الغريبة، أجلسُ معهم وأشاركهم كلّ هذا الجنون، سأقرأ لكم ما دونته في إحدى الليالي من ملاحظات بناء على خبرتي الناجمةِ عن تعاطي الحشيشِ: 

شعرت بجسمي يذوبُ وأصبحت شفافاً، وفي داخلِ صدري شعرت بالحشيش الذي أكلتهُ في شكلِ زمردةٍ تتلألأُ بمليونِ نقطةٍ من النيرانِ، وأما رموش عينايَ فقد طالتْ إلى ما لا نهاية وهي تفردُ نفسها مثل خيوطِ من الذهبِ على مغازل منْ العَاجِ تغزلُ بسرعةٍ مبهرةٍ مذهلةٍ، ومن حولي انهمرت جداول من الجواهرِ من كلّ لونٍ تتغيرُ ألوانها وطولها بصورةٍ مستمرةٍ، وكأنما أراها منْ خلالِ منظارٍ للأشكالِ والألوانِ الجميلة، وبدأَ رفقائي في تعاطي الحشيش، وقد تبدلت صورهم فجزئيّة منهم في صورةِ رجالٍ وجزئيّة منهم في صورةِ نباتاتٍ وهم يرتدونَ رداء أبي قرنٍ! إنهم بدوا بصورةٍ غريبةٍ عجيبةٍ حتى أنني تلويتُ منْ الضحكِ في الركنِ الذي أجلسُ فيهِ وبلغَ من غرابةِ وسخافةِ المنظرِ أنني رميت بالوساداتِ التي كنتُ اِستندْت عليها في الهواءِ بحيثُ أصبحت تدورُ وتدورُ بسرعةٍ وكأنني سَاحرٌ هنديّ.. 

ومرت النوبةُ الأولى ووجدت نفسي في حالتها الطبيعيّة، وبعد ذلكَ بنصفِ ساعةٍ وقعت فريسة لهيمنةِ الحشيشِ مرةً أخرى، وكانت الرؤيا التي أراها هذه المرة أكثرَ تعقيداً وغرابةً.

لكن الشيء الذي أحب أن أؤكده، أني شعرتُ بالفعلِ بتحللّ جسدي فأصبحتُ لا شيء؛ كنت غائباً ومتحرراً من ذاتي. من ذلك المراقب المزعج الذي يطاردنا في كل مكان، ولأول مرة في حياتي استطعت أن أكون تصوراً عن الملائكة والأرواح، متحرراً من ربقة الجسد.  

سأُلتُ بودلير: بحسب كلام غوتييه هناك مراحل للنشوةِ في الحشيشِ . . هلْ هذا حقيقيٌ ؟! 

بودلير : نعم، هناكَ ثلاث مراحل للنشوةِ -وهنا بدأ الجميع ينصت باهتمامٍ لكلام العبقريّ بودلير وهدأتْ الموسيقى؛ ضبابُ الدّخان وحده من كان سيد الموقف-: 

 المرحلة الأولى : مرحلة الفرح الطفوليّ : 

إنَ الآثارَ الأوليّةَ الأشبهَ بأعراض عاصفة طويلة وغيرِ متوقعةٍ؛ تظهرُ وتتضاعفُ داخلَ هذهِ السخريةِ نفسها . ستتملككَ في البدايةِ حيويّةً سخيفةً لا تقاومُ ، تتضاعَفُ هذهِ البهجةِ الطارئةِ التي تكاد تخجلُ منها حتى تقضي على لحظاتِ الذهولِ التي كنتَ تحاولُ فيها تمالكَ نفسكَ بلا جدوى. وتأخذ  الكلماتُ الأكثرُ بساطة والأفكارِ الأكثرِ تفاهة شكلاً غريباً وجديداً حتى أنكَ تندهشُ من عدمِ انتباهكَ إلى غرابتها هذا الوقت كله . لعبٌ بالكلماتِ لا ينتهي، صورٌ مضحكةٌ تتحركُ في رأسكَ باستمرارٍ . 

لقد غزاكَ الشيطانُ ولم يعدْ من الممكنِ مقاومةَ هذهِ النشوةِ المؤلمةِ مثل دغدغةٍ مستمرةٍ . يحدث ارتخاء وقتيّ. لكنَ أشياء أخرى ستحدثُ بعد ذلكَ من خلالِ الإحساسِ بحيويةٍ كبيرةٍ تغمرُ الأطرافَ، يمكن أن تصلَ لدى بعضهم إلى إحساسٍ شديدٍ بالبردِ يلازمها وهنٌ كبيرٌ يتملكُ الجسدُ، تحس بدهشةٍ وذهولٍ شَديدٍ . تكبرَ عيناكَ وكأنهما تنظرانِ إلى الاتجاهاتِ كلها، مأخوذتانِ بنشوةٍ عارمةٍ . 

يشحبْ وجهكَ وتنحسرَ شفتاكَ إلى داخلِ فمكَ، ثمَ ينغلقُ الحلقُ، ويجفَ فمكَ بعطشٍ خفيفٍ، تنهداتٌ كبيرةٌ وعميقةٌ ؛ تفلتُ منْ صدركَ ، كما لوْ أنَ جسدكَ القديمَ غيرَ قادرٍ على استيعابِ رغباتِ ونشاطاتِ روحكَ الجديدةِ . منْ وقتٍ إلى آخرَ تخترقكَ رعشةٌ ، وتجبركَ على القيامِ بحركةٍ لا إراديةً ما .

“يا لكَ من ساحرٍ مبدعٍ” قلتُ هذا في نفسي معجبة بوصفه الدقيق، في الوقتِ نفسهِ عقبَ فالتر بنيامين (1892-1940) وهو فيلسوفٌ ألمانيّ، وناقدٌ ثقافيّ، ومفكرٌ شامل – وقالَ: تناولتُ الحشيشَ بعد أن قرأت كتابكَ يا بودلِير عن الفراديس المصطنعة، لقد وجدتُ وصفاً إبداعيّاً دقيقاً وجذاباً، وعلي أثرِ ذلكَ جربتُ عدَّة مخدراتٍ مختلفةٍ، أكلتُ الحشيش ودخنتُ الأفيون، وحقنت تحتَ الجلدِ بالمسكالين وإيوكودال الأفيونِ . 

وقد ألفتُ أيضاً كتاباً اسمه “عن الحشيش” وذكرت فيه عن الأهميّةِ العلميّةِ والإبداعيّةِ في كتابكَ باعتبارهِ نصاً تأسيسيّاً لا غنى عنهُ سواءَ بتقديمِ وصفٍ علميّ دقيقٍ أو وصفٍ للحالةِ الإبداعيّةِ، وما يكونُ عليهِ الوعي الابداعيّ في ضوءِ استعمالِ الموادّ المخدّرةِ. 

 رد بودلير عليه ممتناً: شكراً جزيلاً بنيامين. لنعود ونكمل المراحل، المرحلةُ الثانية تسمى مرحلةُ الهذيانِ: 

في هذهِ المرحلةِ منْ الانتشاءِ بالضبطِ تظهرُ حساسيّة جديدةً ودقةَ متفوقةً على المستوياتِ جميعها ويساهمُ الشَّم والبصرُ والسمعُ واللمسُ في تدعيمِ هذهِ الحساسيّةِ. ترنو العُيون إلى اللانهايّةِ. 

تسْتقبلُ الأذنُ أصواتاً مضطربةً وصعبةً التحديدِ قادمةً من بعيدٍ. تَأخذُ الأشياءُ المحيطةُ أشكالاً فريدةً، تَتشوَّهُ ثمَّ تتحولُ. ثمَّ يكونُ الغموضُ، وسوءَ الفهمِ، وتحولَ الأَفْكارِ. تَأخذ الأصواتُ ألوان مختلفة. وتَحْبلُ الألوانُ بالموسيقى. 

هنا أضاف آرثر رامبو “1854-1891م” شاعر فرنسيّ: لقد كنتُ أتعاطى الحشيش من أجل أن أستطيع سماع أصوات الألوان، تلك النغمات الخضراء والحمراء والصفراء، التي لا يعرف سحرها إلا من عبرت روحه.

بودلير: نعم يحدث ذلك، وفيما يشبه ما سميّ في النقد الأدبيّ بتراسلِ الحواس أو التأليفيّة أو التركيبيّة” Synesthesia” حيث تمتزجُ أكثر من حاسّةٍ في تكوين الصورةِ الشّعريّة، نجد أنه أمام الظلالّ الزرقاء الكبيرة المباشرة تتابع حشود من نغماتِ الألوان البرتقاليّة، والزهور الواهنة التي تشبه الصدى البعيد الخافت للضوء.. ففي اللون هناك التناغم واللّحن والمصاحبات الموسيقيّة. 

 وأيضاً لا بدّ من أن أشير أنه يحدث أحيانا أنْ تُمحَى شخصيتكَ لصالحِ الموضوعيّةِ التي تمثلُ أساسَ كُلّ عملٍ أدبيّ، وينسيكَ تأملكَ الأشياءَ منْ حولكَ، وجودكَ الخاصّ. هنا الهذيان متصاعداً وشبهَ إراديٌّ، ولا يصبحُ مثالياً، بلْ ولا ينضجُ إلا عندما يعملُ الخيالُ. 

أفترض أنكَ جالسٌ مثلا وتدخن الآن، وتتأمَّل. ستشعرُ أنكَ تتبخرُ أيضاً معَ دخانِ غليونكَ، وستطلبُ من غليونكَ الذي ستشعرُ أنكَ مفتتٌ في داخلهِ مثلَ التبغُ؛ أَن يدخنكَ . 

هنا سألتُ بودلير: لكن أليس هذا كلهُ سوى الطبيعيّ مكثفاً إلى أعلى درجة، ويمكنُ لِكلّ ذهنٍ شاعريّ في وضعهِ السليمِ والعَاديّ أن يصل إلى هذه المقاربات ؟ 

بودلير: بكل تأكيد. لقد نبّهتُ من قبل في كتابي إلى عدم وجود أَيّ شيءٍ فوقَ طبيعيّ في نشوةِ الحشيشِ، فقد تأخذُ هذهِ المقارباتِ حيويّةً غيرَ معتادة وتخترقُ العقلَ متملكةً إياهُ ومكبلةٍ لهُ بطابعها السُّلطويّ. 

ثم ابتسم وهو يقول: من حسنِ الحَظّ، أَنَّ هذا الخيال الذي لا ينتهي، لم يدمْ سوى دقيقةٍ واحدةٍ، 

دقيقةٌ واحدةٌ تستحيلُ أبديّةً بأكملها. لأَنَّ التفاصيلَ المتعلقةَ بالزمنِ والكينونةِ ترتبكُ أمامَ كثرةِ وكثافةِ الأحاسيسِ والأفكارِ. كما لو كنت تعيش أكثر من حياةٍ في غضونِ ساعةٍ واحدةٍ.

لكن هذا لا يتوقف على الحشيش فقط يا بودلير أو الأفيون يا دي كوينسي، رد بهذا القول الكاتب الألمانيّ هانس فالادا (1893 – 1947 م )، وأضاف: المورفين أيضاً يشاركهم تلك اللذة وإن كان أشد منهما شراسة؛ يفتك بكَ من شدةِ المتعةِ، عشيقتي الوحيدة الآنَ هي حقنةُ المورفين، عشيقةٌ شريرةٌ تعذبني عذاباً لا ينتهي، ولكنها تكافئني أيضاً مُكافأَة تفوق العقلِ. 

قلتُ لقد قرأت كتابا لك يا فالادا اسمه ” تقرير موضوعيّ عن سعادة مدمن المورفين” لقد نقلت نفسك بصدقٍ على الورق، بشكلٍ يشبهُ سيرةً حيةً واقعيةً بأسلوبٍ حكائيٍّ وبلغةٍ واضحةٍ وبسيطةٍ؛ الأمرِ الذي جعلني أشعر بِكلّ اللذةِ والمعاناةِ معا، بدايةَ منْ إدمانِ المورفين وانتقالاً إلى الكوكايين والتبغِ.

لم أنقل سوى الحقيقة سمر: هذهِ العشيقةُ حقا داخلي. إنها تملأُ عقلي بنورها السّاطعِ الصّافي، وعلي شعاعهِ أدرك أَنَّ كلَّ شيءٍ باطلٍ، وأنني لا أعيشُ إلا للاستمتاعِ بهذهِ النشوةِ، إنها تسكنُ في جسديّ، لم أعد حيواناً جنسيّاً بائساً، يتحرَّقُ شوقاً إلى الآخرِ، منهكاً من عدمِ الإشباعِ والرغبةِ، أنا الآنَ رجلٌ وامرأَةٌ في آنٍ واحدٍ، وبوخزةِ الإبرة يبدأُ الاحتفالُ بالعرسِ الأسْطورِيّ، العشيقةُ كاملةَ الأوصافِ، والحبيبُ الذي يخلو من كلّ عيبٍ، يحتفلانِ بأعيادهما تحت شعريّ الكثيفِ .

يرد عليه بودلير: هذه الحالة الفريدة يا فالادا التي تتوازن فيها القوى جميعها، حيث الخيال الواسع الذي لا يتبعه رغم تدفقه الرائع أيُّ حسِّ أخلاقيّ.

هلّ تعلمون أنَّ الذات البشريّة تتمتع بامتياز القدرةِ على استخراجِ لذةٍ جديدةٍ من الألم، ومن الكارثة، وحتى من الموت نفسه تعادل ما يمكن أن يُحسّه الإنسان حين يتناول مخدّراً قوياً. لكنه بالرغم من ذلك يختار الخيار الذي يمنحه أن يحلم وأن يتحكم به هذا الحلم؛ يختار الحشيش أو مخدر آخر، بالرغم من ذلك فإنه يحافظ على النبرة الخاصة به. إنه مغلوب على أمره، ولكن، مغلوب ببؤسهِ الذي وصل إليه بنفسه، أي بالجانب المهيمن في داخله؛ لقد أرد أن يصبح ملاكاً، فصار بهيمة.

 

وهو ما سأوضحه في المرحلة الثالثة: مرحلةُ الكيفِ : هناكَ لحظاتُ استراحة وهدوء خادع، وغالباً ما يؤدي الحشيش إلى جوعٍ وحشيٍّ وعطشٍ متزايدٍ طولِ الوقتِ. هذهِ الحالةُ الجديدة أوْ ما يسميهُ الشرقيونَ الكيفَ. وهنا تنتهي العواصفُ كلها والصخبَ كلهُ الذي في رأسكَ ؛ إنها نعيمٌ هادئٌ ومحكومٌ بالحركةِ ، استسلامٌ مجيدٌ. هناكَ تعبٌ في اليومِ الموالي، وهوَ تعبٌ كبيرٌ . 

سأذكرُ لكم ما قالتهُ امرأةٌ عقبَ تناولها للحشيشِ أولَ مرةِ واللحظةِ التي أعقبتْ صحيانها منْ نشوةِ المخدرِ: “لن أُحدّثك عن التعبِ الذي شعرتْ بهِ .. لقد كان هائلاً. يقولونَ أَنَّ حساسيّةَ الشعراءِ والمبدعينَ تشبهُ ما أحسستُ بهِ رغم أني أتخيلُ دائما أَنَّ الناسَ الذينَ وجدوا لإدهاشنا موهوبونَ بمزاجٍ هادئٍ جدا، لكن إذا كانَ الهذيانُ الشِّعريّ يشبهُ ما فعلتهُ بي تلكَ الملعقةِ الصغيرةِ من المعجونِ، أَظنّ أَنَّ اللذةَ الجماليةَ التي يشعرُ بها الجمهورُ تتكلفُ غالياً على الشّعراءِ، وليسَ دون نوعٍ من الراحةِ، وشيءً من القناعةِ السخيفةِ، أنا أشعرُ أخيراً أني عودت إلى ذاتي، وإلى كياني المفكرِ، أقصدُ إلى الحياةِ الواقعيةِ”

 في اليومِ التالي ستشعرُ بعافيةٍ عجيبةٍ؛ وتعتقدُ أنكَ تنعمُ بخفةِ روحٍ رائعةٍ، ولكنْ بمجردِ أنْ تحاولَ الوقوفَ على قدميكَ، حتى تطاردكَ ثمالةٌ متبقيّةٌ، وتسحبكَ إلى الوراءِ، تخشى في كلّ لحْظة أنْ تنكسرَ ساقاكَ الضعيفتانِ، كما لو كنت شيئاً هشّاً، يتملَّك كسلٌ كبيرٌ روحكَ، ويتسللَ إلى حواسكَ، ها أنتَ لبضعِ ساعاتٍ أخرى غيرِ قادرٍ على العملِ أو الحركةِ أو استمدادِ الطاقةِ. 

هذا هوَ العقابُ المترتبُ على إسرافكَ في استنزافِ جهازكَ العصبيّ . لقد وزعتْ نفسكَ على رياحِ السماءِ الأربعةِ، وأَيّ أَلم تَشْعر بهِ الآنِ كي تجمعها وتكثفها مجدداً

.

في الغد! في الغد الرّهيب! تعلّمك الأعضاء الفاترة والمتعبة، والأعصاب المرتخية، والرغبة القويّة في البكاء، واستحالة الانكباب على عمل متواصل، تعلّمكَ بقسوةٍ أنكَ لعبت لعبة ممنوعة. 

الطبيعة، المقرفة، المنهكة من إشراقة البارحة، تشبهُ فضلات حفلة حزينة.

إنه لمن الضروريّ حقاً، بعد هذه الاعتبارات كلّها، أن نؤكّد على الطابع اللا أخلاقيّ للحشيش. إذا ما قارنتهُ بانتحار، انتحار بطيء بسلاح دمويّ مشحوذ على الدوام، الحشيش مثله مثل الملذات الانزوائيّة، تجعل من الفرد عديم الفائدة بالنسبة إلى الناس والمجتمع الذي لا لزوم له بالنسبة للفرد، ويدفعه إلى الإعجاب بنفسه دون انقطاع، اذا اعترفنا لحظة أنّ الحشيش يعطي، أو على الأقل يزيد من العبقريّة، فإننا ننسى أنه من طبيعته أيضاً أن يقلّص من الإرادة، وبالتالي فهو يمنح من جهة ما يأخذه من الجهة الأخرى.

بهذه الكلمات وهذه الخلاصة لهذا السُم الشهيّ؛ ودعتُ الجميع وعدتُ إلى دياري. وفي الطريق أخذ عقلي يعيد ويكرر ما قاله هؤلاء المبدعون، وتذكرتُ ما قاله الدكتور أحمد عطية السعودي من أنَّ المنطلق الفكريّ يُعدّ مُرتكزاً في تحديد مَسار الأديب وصَبغ نتاجه، وتوجيه سُلوكه، وتجلية بصماته. والمنطلق الفكريّ السَّديد هو وحده القادر على إقامة الجدار الذي يوشك أن ينقضّ بين الكيان الإنسانّي والشَّاكلة الحيوانيّة… والأديبُ الذي لا تحكمه مُنطلقٌ فكريّ سليم، ولا يلتزمٌ بمنظومة من القيم السَّامية، ولا يزينه سلوكٌ سويّ فهو الحمارُ الأنسيّ الكبير الذي عناه ( ج. دونالد آدامز) بقوله: ” لا بدّ من أن تكونَ للكاتب الكبير قيمٌ يتمّسكُ بها، ويهتدي بها في عمله، ويستفيد عمله من معرفته لوجهته أو غايته، وهو يفيدُ من التجارب السَّابقة، ويتعرّض لشتى أنواع المؤثرات والعوامل، وإنَّه لحمارٌ كبيرٌ إذا اعتقد أنَّ ما يقدّمه للأدب هو من صنعه الخاص” 

وأنه قد تعلق الأدباء الغربين بالمخدرات والخمور، من ضمن المنطلقات الفكرية والتي تعد من ضرورات الإبداع والنبوغ لديهم؛ لأنَّها –في زعمهم- تُهيئ المناخ الملائم للكتابة، واستمطار الأفكار، والشّعور بالراحة والمتعة. 

هذه الكلامُ صحيحٌ، وذاكَ أيضاً،،

صحيحٌ من مختلف الزوايا ومختلف الرؤى، لكلّ منا زاويته الفسفوريّة التي ينظر من خلالها للأشياء،،

 لكل منا فردوسه الخاصّ، لكلا منا منطلقهُ الفكريّ، ومعتقداتهُ، وركائزه التي يستند عليها؛ 

لنرى العالم بوضوحٍ ونجعل العالم يرى نفسه من خلالنا بشكلٍ أوضح.

المصادر:

أحمد عطية السعودي ( 2015). القلم والميزان دراسات في الأدب والنقد ولغة العرب. الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان: الأردن، ط

اميلي ديكنسون. مختارات شعرية وقراءات نقدية. ترجمة وتحقيق: نصير فليّح

(2012)، الدار العربية للعلوم ناشرون.ط1

شارل بودلير .الفراديس المصطنعة ” في الحشيش والأفيون”. ترجمة: ناظم بن إبراهيم (2018)، منشورات المتوسط، العراق: بغداد،  ط1.  

٤

شارل بودلير. الأعمال الشعرية الكاملة. ترجمة: رفعت سلام ( 2009)، دار الشروق، مصر: القاهرة ، ط1

٥

فاطمة محمد الكعكي ( 2014). الحشيش بين الواقع والخيال. دار سيبويه للطباعة والنشر والتوزيع، ط1

٦

فالتر بنيامين. عن الحشيش. ترجمة وتحقيق: سماح جعفر-هرمس(2016)، دار النشر الكتب خان للنشر والتوزيع

٧

فرهاد دفتري . خرافات الحشاشين وأساطير الاسماعيليين. ترجمة: سيف الدين القصير( 1996)، دار المدى للثقافة والنشر، لبنان: بيروت.

٨

هانس فالادا. تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين. ترجمة: سمير جريس (2018)، دار الكرمة للنشر، مصر: القاهرة،ط1

٩

موقع وموسوعة ويكيبيديا.

Posted In ,

Leave a comment

Discover more from SULFUR EDITIONS

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading