[ الفن بوصفهِ أسلوب حياة ]
جورج حنين
ترجمة الأستاذ : بشير السباعي
الفن في نظرنا لا يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير، يمثل شيئاً آخر تماماً. فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة، جميع الأشكال المؤقتة أوالأبدية للشعور، جميع الحالات والإدراكات، يمثل أسلوب حياة، موقفاً هو في آنٍ واحد حيوي وشعوري وواع. فالشيء المهم بالدرجة الأولى عند الإنسان هو نوع من الأناقة الأخلاقية المعنوية يصبح الفن بالنسبة له انطلاقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته. والحال أن هذه الأناقة الأخلاقية المعنوية التي يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد والإذلال، هي التي تجد نفسها في اللحظة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نظم الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر الأوضاع بؤساً. وهذا البؤس الروحي الذي لا سابق له لا يتماشى إلاَّ بشكل بالغ مع البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع. فما الذي يجري الآن هو تجريد الذكاء من جميع حقوقه؛ وحرمان الإنسان من امتلاك زمام مصيره. وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا لا يمارسون ضراوتهم ضد أسلوبٍ في الرسم بل ضد أسلوبٍ في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها. لم يعد من حق أحد أن يحلم بصوتٍ مرتفع لأن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني بشكلٍ عام ) إرادة التحرر من واقعٍ يتزايدُ غربة، إرادة تغيير الوطن إلى الأبد. وفي مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم، يجري النهي عن استيراد الحلم لاعتباراتٍ كبرى تتصل بالانضباط الاجتماعي. ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي، فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث محكومٌ عليه بالموت… ونحن نعتقد أن هناك مجالاً للرد على هذا التدجين القذر للفن. نحن نعتقد أن هناك مجالاً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد الكُتاب والفنانين حول رجال وأعمال تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية. وهذه الأعمال وهؤلاء الرجال موجودون. وهم موجودون بشكلٍ واسع بحيث إنه في بلدانٍ عديدة ليس لإداراتٍ بأكملها من وظيفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم، بالتناوب، الصمت والافتراء والإرهاب. إنهم ليسوا موجودين وحسب، بل إنهم يظلون في عالمٍ مسكونٍ بالأشباح الدموية، الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة.
وإنها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية، أي بشيءٍ يوجد إجماعٌ على اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً. وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك لأنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون مصدر خطر على مجتمع محدد. لأنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النظم الاجتماعية أقل استعداداً للتسامح معه.