لكنهم صنعوا المستقبل..
أنور كامل
ماذا صنع هؤلاء؟ ربما لاشئ.
لكنهم صنعوا كل شئ: صنعوا المستقبل.
هكذا قال جاك بيرك المفكر والمؤرخ الفرنسى الكبير عن جورج حنين وأنور كامل وكامل التلمسانى ورمسيس يونان وفؤاد كامل فى الفصل الذى تحدث فيه بإيجاز عن “الأربعينات” وعن جماعة “الفن والحرية” ومجلة “التطور” وجماعة الخبز والحرية فى كتابه الضخم الذى ضمنه تاريخ مصر الحديث.
أذكر الآن أنى قرأت هذا الكتاب فى أوائل الستينات أى بعد عشرين سنة من أحداث “الأربعينات” وبعد عشرين سنة أخرى أو يزيد أقرأ فى باب “عصير الكتب” بعدد مجلة “صباح الخير” الصادر فى 7 أغسطس 1986 مقالا لعلاء الديب يعلق فيه تعليقا “مثيرا” على كتاب مثير هو السريالية فى مصر “لسمير غريب”
وقد كان من الممكن ألا أقرأ المقال لولا تصديره بأسماء التلمسانى ويونان وجورج حنين، ولولا أن كاتبه هو علاء الديب. أما علاء الديب فمع أن صلتى به قريبة إلا أن معرفتى به بعيدة. فأنا أعرفه منذ ترجم مسرحية “لعبة النهاية” – أو بتعبير قد يكون أصح “نهاية اللعبة”- لصمويل بيكيت التى قدمت بمسرح الجيب فى أوائل الستينات. وأما حنين والتلمسانى ويونان – وجميعهم رحلوا – فلا تزال أسماؤهم تهز الأعماق لأنهم كانوا زملاء فكر ونضال. والحق أن قدرية كامل شقيقتى وزوجة عبد الحميد الحديدى – الفارس الذى رحل – وأحد كتاب مجلة “التطور” – هى التى لفتت نظرى إلى مقال علاء الديب.
وأنا أعلم أن إشارات سريعة أو عابرة عن “هؤلاء” وعن نشاطهم الخصب طوال ما اصطلح على تسميته بفترة “الأربعينات” كانت تتردد بين الحين والحين فى عدد محدود من المقالات أو الكتب أو المقدمات أو الهوامش. ولعلى لم أقرأ من هذا كله خبرا عن مقدمة “العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح” للدكتور لويس عوض الذى ذكر لى وللدكتور حسين فوزى مجتمعين أن “حسن مفتاح” مزيج من شهدى عطية ورمسيس يونان وأنور كامل برؤية لويس عوض فأجبته بأنه إن كان فى “العنقاء” من الثلاثة قدر فإن فيها من لويس عوض – إلى جانب رؤيته- فكره ووجدانه بقدر كبير.
· كاتب شاب وكتاب مثير..
وقد لفت نظرى بصفة خاصة فى مقال علاء الديب ثلاثة أمور: الأمر الأول قوله “إن ما كتبه سمير غريب- هذا الكاتب الشاب – كتاب هام ومثير”. وإذن فهو كتاب بأكمله وليس مجرد إشارة سريعة أو عابرة. وقد اتضح لى بعد شرائه وقراءته أنه يزخر بوفرة من البيانات الموثقة احتوتها 240 صفحة من القطع الكبير بالرغم من أن التركيز فيها كان فحسب على الأوجه السريالية شعرا وتشكيلا.
وقد أخذنى العجب كيف استطاع “هذا الكاتب الشاب” – بتعبير علاء الديب – أن يجمع من البيانات والوثائق ما أعجز أنا عن جمعه بهذا الشمول مهما أردت أو حرصت مع أنى كنت جزءا من هذا التاريخ. لكن دهشتى خفت حين تبين لى أنه استعان فى باريس بالسريالى العراقى عبد القادر الجنابى ثم بإقبال أو بولا العلايلى زوجة جورج حنين ثم بسونيا وسيلفى ابنتى رمسيس يونان.
ومع ذلك يبقى السؤال قائما: كيف تكون هذه البيانات والوثائق متوفرة للباحث فى باريس وربما فى غيرها من عواصم العالم دون أن يجد ما يستحق الذكر فى دار الكتب المصرية أو فى مكتبة الجامعة؟ أذكر أنه منذ عدة سنوات حضرت إلى مصر طالبة دراسات عليا من جامعة هارفارد اسمها سلمى بوتمان كانت تعد بحثا للدكتوراة عن “الفكر التقدمى فى مصر من 1936 إلى 1952”. وقد طلبت معونتى – ومعونة غيرى بطبيعة الحال – فلم أجد فى معظم الأحوال ما أساعدها به سوى ما رأيت أنه مناسب مما أحتفظ به فى ذاكرتى وهو كثير. لكن الذى يسترعى النظر حقا هو أنها أجابتنى حين سألتها عن السبب الذى طلبت من أجله معونتى أنا بالذات بأن المشرف على الرسالة أوصاها بذلك فضلا عن أنها اطلعت على بعض كتابات منسوبة إلى بأرشيف هارفارد. لهذا أقول أن العمل الموثق الذى قام به سمير غريب هذا الكاتب الشاب –عمل عظيم حقا. لكنه عمل يجب أن تتلوه أعمال لأن التاريخ الذى يتناوله بالبحث والتوثيق أخصب من أن يضمه مجلد واحد.
· كان فى مصر أجانب..
الأمر الثانى: أن علاء الديب أراد أن يبرز ما جاء فى الكتاب من أنه “كان فى مصر أجانب شاركوا فى بناء تلك الحيوية الثقافية والأجتماعية.. “لكنه عاد فقال ” إن شخصيات مثل التلمسانى وجورج حنين وفؤاد كامل وأنور كامل ورمسيس يونان ليسوا مجرد فنانين تشكيليين أو شعراء ولكنهم ظواهر ثقافية وإجتماعية وخالقين أصلاء لمناخ ثقافى وفكرى مصرى رغم نزعاتهم العالمية” فالحديث عن “الأجانب” فى فقرة وعن “النزعات العالمية” مسبوقة بكلمة “رغم” فى فقرة لاحقة ربما يوحى إلى القارى بأن ذلك قد لايكون فى صالح تلك الشخصيات.
لقد كانت الحركة تضم بالفعل أجانب. لكنهم كانوا أجانب مثقفين متحضرين. ومنهم من أسهم فى الحركة الثقافية والاجتماعية بما لم يتح لكثير من المصريين. كانت المراجع بيننا شحيحة. وكانت اللغة بالنسبة للبعض منا عائقا. وكان من الطبيعى أن يقوم بين الجانبين نوع من التعاون. ومع ذلك فأى أجانب؟ هل كان سام كنتروفتش على سبيل المثال أجنبيا؟.
· سام كنتروفتش..
كنتروفتش هذا كان يكتب باسمه فى مجلة “التطور” أشعارا. وباسم القنطراوى فى المجلة الجديدة “تعليقات خاطفة” هاجم الديكتاتورية بقصيدة فى مجلة “التطور” جاء فيها:
كوابيس فولاذية تولد
ممكنات للهلاك
كروية وبيضاوية ومدببة
هلوسة
ألعبان يقلد القياصرة الدمويين
كتب هذا فى وقت كانت في مصر تيارات تدعو إلى الديكتاتورية وتمجد الديكتاتوريين قبل أن تسمع فى شوارع القاهرة هتافات المتظاهرين: تقدم يا روميل. وكتب قصيدة “العبقرى”. وربما كان يستوحى فيها نفسه. وصورها فؤاد كامل بلوحة فيها كل ملامح كنتروفتش. وقد كان كنتروفتش عبقريا حقا.
عرفته زميل دراسة وصديقا حميما فى الجامعة الأمريكية. وكان عبقريا حقا. سافر إلى باريس وحصل على أعلى الدرجات العلمية فى الرياضة البحتة. ثم عاد إلى مصر حيث ولد وعاش وتربى. وتقدم للعمل بالجامعة المصرية فقالوا له: “أنت عبقرى حقا.. لكنك عثمانى”. ولكى يعيش العبقرى العثمانى – ذو الشعر الأحمر – اليهودى من أصل بولندى – من بقعة على الحدود الروسية – علم الأطفال فى مصر بالفرنسية شيئا مثل أبجد هوز. ثم لم تطق روحه المتوثبة هذا الحصار فهاجر إلى باريس شبه منفى. ومن هناك أيضا رحل.
ذلك هو واحد من “الأجانب” الذين تردد على ألسنة البعض من أجلهم أن حركتنا كانت “أجنبية” لكن لويس عوض صدق حين وصف جماعة “الفن والحرية” بأنها جماعة من الماركسيين الأحرار يتميزون بصفتين: الأولى أنهم جماعة مصرية صميمة رغم وجود أجانب بينهم. والثانية أنهم يمثلون صفوة مثقفى اليسار المصرى.. لقد كنا مصريين ولكن لم نكن متعصبين،. وكنا عالميين ولكن لم نكن غير قوميين؛. فالقومية عندنا لم تكن ضد العالمية، والعالمية لم تكن ضد القومية، بل كانتا معنى واحدًا فى ظل مفهوم كونى شامل.
· دعوة إلى المستقبل ..
الأمر الثالث: أن علاء الديب يوجه النظر إلى أن الكتاب يعد عملا رائداً ولبنة أولى فى مشروع بحث كبير يحاول ربط هذه الحركات الفنية بأصولها الاجتماعية. لكن اعتقادى أن هذا الربط وحده لا يكفى.وسمير غريب نفسه يقول فى مقدمة الكتاب بعد مرور 45 سنة شبيها بما قاله جاك بيرك منذ 25 سنة: إنه لم يكتب الكتاب للماضى بل طعنا فى الحاضر وشقا للمستقبل. وذلك فى نظرى هو أهم ما فى الكتاب.
أقول إن دراسة الماضى عند سمير غريب ليست سلفية. ودراسة الحاضر ليس جمودا أو محافظة. وإنما هما بالتشريح والمقارنة دعوة إلى المستقبل. وهو حين يتأمل الثلاثينيات والأربعينيات – ومن جهتى أضيف العشرينات – يكتشف إن كتابتها كانت أكثر تحررا من كتابات الثمانينيات. وهذا صحيح إلى حد كبير. فالقضايا التى أثارتها الأربعينيات معظمها كان قائما: العدالة الاجتماعية غير متوفرة و أصحاب الملايين يزدادون عددا. وحرية المرأة فى خطر ونخشى – كما يقول زكى نجيب محمود – أن يكون حجاب الوجوه حجابا على العقول. وحرية التفكير والتعبير هى الأخرى مهددة بعصور وسطى على عتبة الألفين من ميلاد المسيح.
· إلى أمشاط من ماس..
لقد قرأت كتاب “السريالية فى مصر” مرتين الأولى فى القاهرة عقب قراءتى لمقال علاء الديب مباشرة. والثانية فى مرسى مطروح ومن أمامى البحر. وأنا أمام البحر مصاب بضعف. فأنا أجلس على الشاطى بالساعات دون ملل أحيانا يستهوينى سكونه إذا كان الصفاء قناعه. وأحيانا أخرى كثيرة يستهوينى صخبه كلما اشتد موجه. وربما كان إمتداده هو الذى يدفعنى إلى التفكير فى كل شىء وأحيانا فى لا شىء. وأنا الآن جالس أكتب فيقع بصرى على إهداء الكتاب:
إلى أم سيد وعمى غريب..
وطرقات منفلوط المسكونة بالأوهام.
وعلى بن عاشور …… الصديق فى المنفى.
ولو قدر لى أن أهدى الآن كتابا إذن لاخترت له إهداء. لكن لاأكتب الآن كتابا وانما أكتب مقالا. ومع ذلك فانى أهديه:
إلى أمشاط من ماس
وطفل صغير يصرخ فى هلع
فتعلم حرفا فى معنى العدل
إلى طريق ببنى سويف
وطفل يخوض المستنقع حتى الركب فى فزع
من وجوه حمر ورصاص منطلق
إلى الدكتور حسين همت
وطفل تتردد فى وجدانه أصداء من المنفى
والدم المسفوك لم يرحم شعبا ولاوطنا
فتعلم حرفا فى أن العالم للإنسان هو الوطن الأكبر
· عدم التدخل..
ولست أدرى لماذا تذكرنى “أمشاط من ماس” بقصيدة “عدم التدخل” التى نشرت بالفرنسية لجورج حنين فى 1938، ربما لكى أصوغها بالعربية وأهديها إليه فى 1986 تحية لذكراه وتقديرا لفكره ونضاله:
المجالس تطفح بالجثث الهائلة
الأحكام تتدفق لتمزيق أسبانيا بعنف أشد
كم تتشابه كل هذه الميتات الجديدة
كم حوى الموت كل ما هو جدير بالحياة
لم يحدث أبدا أن كان تحت اليد
للخطب والملفات والتقارير هذا القدر من اللحم
دمعة من هنا وأخرى من هناك
لم يحدث أبدا أن سقط هذا القدر من الضحايا
والضمير معدوم إلى هذا الحد
انظروا المدن فقدت شرايينها شريانا بعد شريان
والقرى فتكت بها قرح شرهة
والطرق لم تعد تسلم
إلا لسواد الرعب
حيث لا يستطيع أحد أن يميز سماء من أرض
لأنه لم يبق فى الفضاء سوى بعد واحد هو بعد القتل
انظروا الضربات القاصمة
تستقر فى جوف الشعب
والملاك الجدد للشاطىء الأزرق
يضعون فى اللحم
فى هبة الحياة مساحات من المعاناة كل يوم
الدبلوماسيون لحسن الحظ هناك
جدلهم لم يعد يزدهر إلا فوق الحطام
على المآتم فى مدريد وبرشلونة
على الحداد فى العاصمتين المشطورتين
أيتها الأحياء التى خرجت من ليل الحديد والنار ملتهبة
فلتواصل صفاراتك الحادة صراخها
أيها الدمار الذى لا يغتفر
يتحدثون عنك فى وزارات الخارجية
عن ناقلات الجرحى وصناديق الموتى والمقابر
أيها الناس أيتها الحجارة عزاء
يا خرائب أسبانيا لن تكونى الأخيرة
هكذا تقرر أن يكون المصير
لا تيأسوا من الآخرة
ها هى ذى تتقدم نحوكم
الخيانات الغيبية المبجلة
مكان لمن اخترعوا للقبور شواهد
إنهم سيوزعون الرحمات من أجل خلودهم
سيتولون عنكم طقوسكم المقدسة
سيصنعون من كل طوربيد قربانا
حتى تكون فى النار راحتكم أبدا
· مصرية أم عالمية؟
مرة أخرى: مصرية أم عالمية؟ حسما لهذا السؤال أروى قصة التكوين فى إيجاز شديد. “الفن والحرية” – ثم “الخبز والحرية” – تكونت من التقاء صفوة معظمها من الشبان نمت من خلال انتماءاتها التنظيمية أو التجمعية إلى جانب تربيتها الخاصة وخبرتها الذاتية المتميزة. فمن جماعة “المحاولين” جورج حنين ومن معه. ومن جماعة “الدعاية الفنية” يوسف العفيفى ورمسيس يونان ومع العفيفى مريدوه. ومن “المنبوذين” –نسبة إلى “الكتاب المنبوذ” – أنور كامل وكامل التلمسانى وفؤاد كامل و أحمد رشدى. بل إن أنور كامل كان قبل ذلك مندمجا فى تجمع متميز آخر منذ مطلع الثلاثينيات. من شخصياته البارزة أحمد كامل مرسى الملقب حاليا بشيخ المخرجين. ومن شخصياته أيضا أعلام برزوا كل فى مجاله. أذكر منهم صلاح طاهر وسيد بدير وسيد إسماعيل ومحمود السباع وألبير قصيرى وأحمد خورشيد وكمال سرور ونيازى مصطفى.. وغيرهم ممن كانوا يجتمعون فى “النورس” أو فى ستوديو آمون.
ومن الطريف أن أذكر أنه كان من أفراد بعض هذه التجمعات من يتردد عليهم جميعا. فأنت قد تراهم هنا ثم هناك فى يوم واحد. وربما كان فى هذا دلالة على القلق الدائم لكنه يدل أيضا على مساحة واسعة من وحدة الفكر بينهم. وقد كان أنور كامل يقول “أنا القلق الدائم” فيجيبه جورج حنين: “و الثورة الدائمة”. والحق أن كامل التلمسانى هو الذى جمع بين جورج حنين وأنور كامل. وبانضمام رمسيس يونان ويوسف عفيفى ولطف الله سليمان وسام كنتروفتش وزكى سلامة وعبد العزيز هيكل وألبير قصيرى ونظمى لوقا وتوفيق حنا وفتحى البكرى وأبو خليل لطفى وعبد المغنى سعيد وزاهر غالى وعلى كامل وفيصل شهبندر وعبد الحميد الحديدى وفؤاد كامل – وكان أصغرهم سنا – سواء بالاندماج فى الجماعة أو بالإسهام فى مجلة “التطور”- حدث أكبر تجمع ثورى شهده مطلع الأربعينيات.
“الفن والحرية” لم تكن إذن مجرد امتداد لجماعة “المحاولين” وإنما كانت التقاء فريدا لعدد من التجمعات الناشطة منذ الثلاثينيات. وأنت إذا راجعت مجلة “التطور” أو “المجلة الجديدة” أو غير ذلك من المطبوعات إذن لراعك الخيط المتميز الذى يربط بين جميع ما نشر سواء أكان مقالا أم حوارا أم مسرحا أم صورة أم شعرا أم شعارا. ولن يغير من الحقيقة شيئا أن يكون الكل قد أفاد من جورج حنين لثقافته الواسعة ومكتبته العريضة وشخصيته النقية. ولن يغير منها أيضا أن تكون ظروفه قد هيأت له الاتصال العضوى بالسريالية العالمية أو التروتسكية العالمية. خلاصة القول أن “الفن والحرية” – ثم “الخبز والحرية” –كانت حركة مصرية رغم وجود “الأجانب” ورغم عضوية جورج حنين فى السريالية العالمية والتروتسكيه العالمية.
احتجاب “التطور”..
لماذا توقفت مجلة “التطور” – ثم “المجلة الجديدة”؟
إبتداء من العدد الرابع من مجلة “التطور” الذى ظهر فى أبريل 1940 لم تأخذ المجلة فى تخفيض عدد صفحاتها إلى النصف بإرادتها وإنما أرغمت على هذا بضغط عنيف من الرقابة. أذكر أن حسن رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية فى ذلك الوقت استدعانى إلى مكتبه وطلب مني التخفيف من حدة كتابتها المثيرة حتى لاتضطر الحكومة إلى مصادرة المجلة أو إغلاقها. وقال بالنص: اكتبوا ما تشاءون. ولكن ضعوه تحت دش بارد قبل أن تنشروه ثم أحالنى الى الدكتور محمود عزمى مدير عام الرقابة فذكر لى أن جهات متعددة تطالب بمنع المجلة من الصدور. ومن هذه الجهات حسب قوله السفارة البريطانية والسراى والأزهر. وقال لى بالنص:”أنت تعرف أنى من أنصار حرية التفكير والتعبير. ولكنك تقدر أنى بحكم وظيفتى لا أستطيع حماية ما تكتبون إلا فى حدود ما يخرج من تحت الدش الذى حدثك عنه رفعت باشا”. وقد حاولنا أن نضع كتاباتنا تحت دش فاتر حتى تخرج ساخنة لا باردة و لا ملتهبة. وكان من المستحيل أن نضعها تحت دش بارد أو مثلوج.
ويبدو أن الضغوط من جانب القوى الرجعية كانت شديدة فقد حذفت الرقابة نصف العدد الرابع ونصف العدد الخامس دون تمييز. كذلك حذفت العددين اللذين كانا من المفروض صدورهما فى يونيو ويوليو 1940 بالكامل. فاحتسبنا الشهرين العطلة سنوية. ثم أصدرنا العددين السادس والسابع فى اغسطس وسبتمبر 1940 فى شكل جريدة نصفية من أربع صفحات فقط. ثم احتجبت المجلة نهائيا. حدث هذا تحت ضغط الرقابة التى أخذت منذ العدد الرابع تحذف وتشطب بالصفحات دون تمييز بين فاتر أو ساخن أو ملتهب.المشكلة إذن لم تكن مشكلة تمويل بقدر ما كانت مشكلة رقابة. فمجلة “التطور” كانت تصدر فى 64 صفحة من القطع الكبير.وقد كنا نطبع منها ألف نسخة لا تتكلف سوى عشرة جنيهات أو أكثر قليلا.
من “الفن والحرية” إلى “الخبز والحرية”..
يصور البعض أن خلافا حادا وقع بين جورج حنين وأنور كامل حدا بالأخير إلى تأليف جماعة “الخبز والحرية”. وتعقيبا على هذا أقول إن الخلاف – إن كان ثمة خلاف – كان خلافا فى نقط التركيز ودرجاته.وإذا كانت جماعة “الفن والحرية” قد ركزت على حرية الثقافة وقصرت نشاطها على التعريف بالحركات الأدبية والفنية والاجتماعية فى العالم فان جماعة “الخبز والحرية” ركزت إلى جانب هذا على مصالح الطبقات العاملة وكان من شعاراتها “الخبز والحرية للجميع” و “يا عمال مصر اتحدوا”.
من هذه الزاوية يمكن أن تعد جماعة “الخبز والحرية” امتدادا لجماعة “الفن والحرية” دليل على ذلك أن شعارات “الفن والحرية” فى مجلة “التطور” ظلت مستخدمة بعد تكوين جماعة “الخبز والحرية” وإن كان ذلك وحده لا يكفى كدليل. فجمال عبد الناصر فى 1957 قال: “الخبز والحرية للجميع”. والحق أن الصلة بين الجماعتين ظلت قائمة وما من مطبوع كتبه أنور كامل إلا وقد أسهم فيه جورج حنين بصورة ما. حدث هذا فى كتاب مشاكل العمال فى مصر الصادر عن جماعة “الخبز والحرية” فى 1941 وفى كتاب “الصهيونية” الصادر فى 1944. وفى كتاب “لا طبقات” الصادر فى 1945. وفى كتاب “اخرجوا من السودان” الصادر- بالاشتراك مع لطف الله سليمان- فى 1947.
لقاء فى باريس..
وحين سافر أنور كامل إلى باريس فى 1967 لم يتصل بأحد ممن كانوا يعيشون هناك سوى جورج حنين وبولا العلايلى ثم ألبير قصيرى. أما جورج حنين فقد تساءل: ماذا يصنع الثائر الاشتراكى فى بلد غير اشتراكى؟ فأجابه أنور كامل فورا: “يتحول إلى ليبرالى فى بلد غير ليبرالى ثم ينشئ إذا استطاع جماعة للفن والحرية تتفرع منها جماعة للخبز والحرية. تماما كما حدث فى المجتمع الرأسمالى” أما البير قصيرى رائد القصة المصرية الثورية رغم لغته الفرنسية فقد ناقشه فى مشروع لترجمة جميع أعماله إلى العربية. لكن الفكرة لم تتحقق.
فى المحكمة العسكرية والصحافة العالمية..
الصلة إذن بين الجماعتين لم تنقطع. فى 1942 حضر جورج حنين الجلسة العلنية الوحيدة للمحكمة العسكرية العليا فى قضية “الخبز والحرية” التى كان أنور كامل هو المتهم الأول فيها ومعه 15 متهما معظمهم من الطيران والمدارس الثانوية. أذكر منهم فهمى عبد العزيز هيكل وأسعد حليم ومصطفى سويف ويوسف الشارونى ومحمد جعفر ومحمد لطفى وأحمد زغلول ومحمد سعيد وحسن التلمسانى وحبيب صليب وفايق سعد الله. وفى هذه الجلسة وضع جورج حنين فى يد أنور كامل رسالة صغيرة بهذا النص: نؤيدك فى صمودك أمام سجانيك. نحن جميعا معك. وفى 1944 نشر جورج حنين فى صحيفة الدولية الرابعة خبر عن كتاب “الصهيونية” لأنور كامل وفى ديسمبر 1945 أرسل جورج حنين بيانا عن اعتقال 45 شخصا من بينهم أنور كامل الذى يصفه جورج فى بيانه بأنه “مناضل منذ عشر سنوات فى الحركة الاشتراكية.. خطيب لامع وعقل وثاب قاطع.. طورد بسبب كتاب له ظهر منذ شهرين باسم “لا طبقات” وقد نشر هذا البيان فى صحيفة “كومبا” وربما فى غيرها.
الجبهة الاشتراكية..
دليل آخر”الجبهة الاشتراكية” وترشيح فتحى الرملى فى الانتخابات لمجلس النواب. الفكرة نشأت أولا فى رأس فتحى الرملى كان يريد ترشيح نفسه. وحين ناقشها مع أنور كامل أيدها رغم عدم اقتناعه بإمكانية النجاح. أيدها كنوع من الدعاية ونزولا بالمبادئ والشعارات إلى الشارع. كذلك لأن فتحى الرملى كان من مؤسسى جماعة”الخبز والحرية” بل إنه هو الذى اقترح اسمها. فضلا عما يتمتع به من ذكاء ونشاط وقدرة على الكلام. ومن مراجعة أسماء الذين حضروا الاجتماعات من أقطاب اليسار نجد أنه كان على رأس الحاضرين- بتقرير الدكتور لويس عوض الذى كان شاهد عيان – أنور كامل ورمسيس يونان وجورج حنين وبولا العلايلى وفؤاد كامل. ومن جهتى أضيف لطف الله سليمان وعبد العزيز هيكل وحسن التلمسانى وأحمد زغلول حسن، هؤلاء وغيرهم كانوا جميعا إما من جماعة “الفن والحرية” أو من جماعة “الخبز والحرية”.
والصحيح أن أنور كامل لم يحضر هذه الاجتماعات لسبب واضح هو أنه كان بعد خروجه من معتقل المنيا محدد الإقامة فى منزله بالجيزة. ولكن فتحى الرملى وزوجته كانا ينقلان له أخبار المعركة الانتخابية عن طريق التليفون. وفى الاجتماع الرئيسى الكبير بدأ فتحى خطابه بنقد الحكومة التى تتشدق بالديموقراطية بينما أنور كامل معتقل فى منزله. وفى هذا الاجتماع هتف الجميع بحياة أنور كامل وحياة جورج حنين وفى المظاهرة التى خرجت إلى الشارع كانت الهتافات تنادى بوحدة المثقفين والعمال وبحقوق العمال والفلاحين وكان أقوى الهتافات “الخبز والحرية للجميع”. الإسمان إذن – جورج حنين و أنور كامل – كانا موجودين جنبا إلى جنب بالفكر والعمل طوال الأربعينيات رغم الأختلاف فى مواقع التركيز ودرجاته. والقول بغير ذلك مغالطة للتاريخ.
عمل شاق لكنه جاذب آسر..
وبعد فإن كتاب “السريالية فى مصر” للكاتب: “الشاب” سمير غريب عمل “مثير” حقا لأنه يتناول فترة من أخصب الفترات فى تاريخ مصر الحديث. ومرة أخرى أقول عن “هؤلاء” ما قاله جاك بيرك منذ ربع قرن: “لقد صنعوا المستقبل” الذى يريد سمير غريب أن يشق بكتابه طريقا إليه. وأقول لسمير غريب إن أمامه عملا شاقا لكنه سيكون عملا جاذبا آسرا إذا كان يريد حقا أن يشق طريقا إلى “المستقبل” الذى صنعه فرسان الأربعينيات الأسطوريين وعجز “العمالقة” عن تحقيقه حتى الثمانينيات.